( ( ورحمة الله مع الرضوان والبر والتكريم والإحسان ) )
( ( تهدى مع التبجيل والإنعام مني لمثوى عصمة الإسلام ) )
( ( أئمة الدين هداة الأمة أهل التقى من سائر الأئمة ) )
( ( لا سيما أحمد والنعمان ومالك ومحمد الصنوان ) )
( ( ورحمة الله ) ) تعالى ( ( مع الرضوان ) ) من الله تعالى ( ( والبر ) ) - بالكسر - الإحسان والشفقة ( ( والتكريم ) ) لهم من فضله العميم وكرمه الكريم ، ( ( والإحسان ) ) إليهم من الله لأنهم أحسنوا عملا وأخلصوا قولا وفعلا فيجازيهم بالإحسان ، لقوله تعالى : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) .
( ( تهدى ) ) - بضم المثناة الفوقية - على صيغة ما لم يسم فاعله أي هذه الأمور التي هي الرحمة والرضوان والبر والتكريم والإحسان ، ( ( مع التبجيل ) ) أي التعظيم وفي حديث أنه - عليه السلام - أتى قبورا فقال : " السلام عليكم أصبتم خيرا بجيلا " . أي واسعا كثيرا من التبجيل يعني التعظيم كما في النهاية ، وقال في القاموس : بجله تبجيلا عظمه ، ( ( والإنعام ) ) من الملك المنعم [ ص: 458 ] المهيمن السلام ( ( مني ) ) أي بأن أسال الله - تبارك وتعالى - أن يفعل جميع ذلك بمنه وكرمه وطوله وحلمه ( ( لمثوى ) ) أي منزل ومقام ، قال في النهاية : المثوى المنزل من ثوي بالمكان إذا أقام فيه . وفي القاموس : المثوى المنزل وجمعه مثاوي . وهو مجازا لأن المراد الثاوين فأطلق المحل وأراد الحال ، ( ( عصمة ) ) أهل ( ( الإسلام ) ) من البدع المضلة والآراء المخلة وأهل الزيغ والإلحاد والإفك والعناد . والعصمة المنعة والعاصم المانع الحامي ، والاعتصام الامتساك بالشيء افتعال منه ، وفي شعر أبي طالب في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
أي يمنعهن من الضياع والحاجة ، وعلى كل حال إنما . عصمة هذا الدين بعد الصحابة والتابعين كان بهؤلاء الأئمة المجتهدينومن ثم قال : ( ( أئمة ) ) أهل هذا ( ( الدين ) ) المتين ونور الله المبين الذي جاء به النبي الأمين من عند رب العالمين ، ( ( هداة الأمة ) ) أي الدالين الأمة على نهج الرسول ، والكاشفين لهم عن معاني الكتاب المنزل والأحاديث التي عليها المعول ، والذابين زيغ الزائغين وبدع المبتدعين وضلال المضلين وإلحاد الملحدين ، فقد شيدوا مبانيها وسددوا معانيها ، وأصلوا أصولها وفصلوا فصولها ، فأصبحت الشريعة بهذا الترتيب مضبوطة ، وأحكامها بهذا الوصف والتبويب مربوطة ، فمن رام اختلاس حكم من أحكامها نكص على عقبيه وهو خائب ، ومن دنا من سماء أحكامها رمته كواكب حرسها بشهاب ثاقب ، ولست أخص بهذا الوصف والدعاء أحدا دون أحد ، بل أسأل الله تعالى لهم جميعا ، لأنهم هم ( ( أهل التقى من سائر ) ) أي جميع ( ( الأئمة ) ) من المقتدى بأقوالهم وأفعالهم ، من كل عالم همام وحبر قمقام ومقدم مقدام ، كالأئمة المتبوعة الآتي ذكرهم ، والسفيانين ، والحمادين ، ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي ثور ، ويحيى بن معين ، وابن أبي ذئب ، والبخاري ومسلم ، ، وعبد الله بن المبارك ، والليث بن سعد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وعبد الملك بن جريج وداود ، وغيرهم ، فإنهم وإن تباينت أقوالهم واختلفت آراؤهم من جهة الفروع الفقهية ، فالجميع سلفية أثرية ، ولهم في السنة التصانيف النافعة والتآليف الناصعة ، كابن سعيد الدارمي ، ، وأشباههم . ثم بعد أن عم جميع الأئمة بالدعاء والثناء خص الأئمة الأربعة ، الذين مدار الشريعة الآن على ما أوصلوه ، وأحكامها [ ص: 459 ] ضمن ما فصلوه ، فقال : ( ( لا سيما ) ) هذه الكلمة مبنية على دخول ما بعدها في ما قبلها بالأولى ، فكل ما نسب لمن قبلها من الثناء والدعاء فمن بعدها كذلك وأولى بذلك ، ويجوز في الاسم الذي بعدها الجر والرفع مطلقا ، وكذلك النصب أيضا إذا كان نكرة وقد روي بالأوجه الثلاثة قول وأبي بكر بن خزيمة امرئ القيس :
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وأرجحها الجر وهو على الإضافة وما زائدة بين المضاف والمضاف إليه مثلها في : أيما رجلين ، والرفع على أنه خبر لمضمر محذوف وما موصولة أو نكرة موصوفة بالجملة والتقدير : ولا مثل الذي هو أو ولا مثل شيء هو يوم ، وعلى الوجهين فتحة سي إعراب لأنه مضاف . والنصب على التمييز كما يقع التمييز بعد مثل في مثل : ( ولو جئنا بمثله مددا ) وما كافة عن الإضافة وفتحة سي فتحة بناء مثلها في ، لا رجل ، وأما انتصاب المعرفة نحو ولا سيما زيدا فمنعه الجمهور ، وتشديد سيما ودخول لا عليها ودخول الواو على لا واجب عند قوم ، حتى قال ثعلب : من استعمل لا سيما على خلاف ما جاء في قوله : ولا سيما يوم - فهو مخطئ - وذكر غيره أنها قد تخفف وقد تحذف الواو كقوله :فه بالعقود وبالأيمان لا سيما عقد وفاء به من أعظم القرب
أحمد ) ) بن محمد بن حنبل الشيباني ، سيدنا وإمامنا وقدوتنا ومتبوعنا ، والواسطة بيننا وبين الإمام ( ( محمد - صلى الله عليه وسلم - الإمام الشهير والأمة العلم المنير صاحب المسند والتفسير والزهد وغيرها - رضي الله عنه - وتقدمت ترجمته في صدر الكتاب ، والله أعلم . ( ( و ) ) أبي حنيفة ( ( النعمان ) ) بالجر عطف على ما قبله على المختار الأكثر ، ويصح الرفع فيهما كما أشرنا أولا على الأشهر ، الإمام الأعظم والحبر المعظم إمام وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي أهل العراق وفقيههم بالاتفاق ، وإمام أصحاب الرأي ، قال الحافظ جلال الدين السيوطي في طبقات الحفاظ : قيل إنه من أبناء فارس ، وهو من التابعين ، فإنه رأى أنس بن مالك وأبا الطفيل - رضي الله عنهما - وروى عن حماد بن أبي سليمان وعطاء وعاصم بن أبي النجود والزهري وقتادة وخلق ، [ ص: 460 ] وعنه ابنه حماد ووكيع وعبد الرزاق ، وأبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن ، وهما الصاحبان إذا أطلقا عند الحنفية .
قال : كان الإمام يحيى بن معين أبو حنيفة ثقة لا يحدث بما لا يحفظ ، وقال : ما رأيت في الفقه مثله ، وقال الإمام عبد الله بن المبارك : كان أعلم أهل زمانه وما رأيت في مكي بن إبراهيم الكوفيين أورع منه ، وقال : الناس في الفقه عيال على الإمام الشافعي أبي حنيفة ، وسئل : أيهما أفقه يزيد بن هارون أبو حنيفة أو سفيان ؟ فقال : سفيان أحفظ للحديث ، وأبو حنيفة أفقه . أكره أبو حنيفة - رضي الله عنه - على القضاء فأبى أن يكون قاضيا ، وكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعا ، ولد - رضي الله عنه - سنة ثمانين ومات سنة مائة وخمسين ، وقيل سنة إحدى ، وقيل ثلاث وخمسين والأول أصح .
( ( و ) ) ) ) بالجر والتنوين ، هو الإمام الكبير والنجم المنير والعلم الشهير الإمام أبي عبد الله ( ( مالك ، شيخ الأئمة وإمام دار الهجرة ، روى عن جماعة من التابعين أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري المدني نافع ومحمد بن المنكدر وجعفر الصادق وغيرهم ، وعنه الإمام وحميد الطويل وخلق جمعهم الخطيب في مجلد ، قال الشافعي : الإمام علي بن المديني لمالك نحو ألف حديث ، وقال الإمام ابن الإمام - رضي الله عنه - : قلت لأبي : من أثبت أصحاب عبد الله ابن الإمام أحمد ؟ قال : الزهري مالك أثبت في كل شيء . وقال - رضي الله عنه - : أصح الأسانيد الإمام البخاري مالك عن نافع عن - رضي الله عنهما - . وقال ابن عمر - رضي الله عنه - : إذا جاء الأثر الإمام الشافعي فمالك النجم ، وعند الإمام أحمد - رضي الله عنهما - أصح الأسانيد ، قال سالم بن عبد الله بن عمر ابن خلكان : أخذ عن الإمام مالك الأوزاعي وغيرهما ، ونودي في ويحيى بن سعيد المدينة ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس . مات في وابن أبي ذئب المدينة سنة تسع وسبعين ومائة ، وهو ابن تسعين سنة - رضي الله عنه - ودفن في البقيع ، وكان شديد البياض إلى الشقرة ، طويلا عظيم الهامة أصلع ، يلبس [ ص: 461 ] الثياب العدنية الجياد ، ويكره حلق الشارب ويعيبه ويراه من المثلة رحمه الله ورضي عنه .
أبي عبد الله ( ( محمد ) ) معطوف على ما قبله سقط حرف العطف لإقامة الوزن ، والإمام فهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي الشافعي - رضي الله عنه - ، يجتمع نسبه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف المذكور ، وقوله ( ( الصنوان ) ) أي القرابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقال للنخلتين في ما زاد في الأصل الواحد : كل واحد منهما صنو ويضم وركيتان صنوان متجاورتان أو ينبعان من عين واحدة ، وفي حديث العباس - رضي الله عنه - : " " . وفي رواية : " فإن عم الرجل صنو أبيه العباس صنو أبي " . وفي رواية : " صنوي " . يريد - صلى الله عليه وسلم - أن أصل العباس وأصلي واحد ، وفي نسخة بدل الصنوان : المتقان ، من الإتقان لإتقانه للعلوم وإحكامه للمنطوق منها والمفهوم ، فهو إمام الأمة وقدوة الأئمة .
ولد بغزة هاشم سنة خمسين ومائة ، وحمل إلى مكة المشرفة وهو ابن سنتين ، وقيل ولد بعسقلان ، وقيل باليمن سنة أربع وخمسين ، وقيل سنة اثنتين كذا في طبقات الحفاظ للجلال السيوطي ، وشرح ألفية الحديث للمصنف ، وفي طبقات الحفاظ أيضا : ولد ببلاد غزة سنة خمسين ومائة ، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين فنشأ بها ، وكان - رضي الله عنه - جم المفاخر منقطع النظير ، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وكلام الصحابة - رضي الله عنهم - وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء ، وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر - حتى قرأ عليه مع اشتهاره بهذا الشأن أشعار الهذليين - ما لم يجتمع في غيره ، حتى قال الأصمعي - رضي الله عنه - : عرفنا ناسخ الحديث ومنسوخه لما جالسنا الإمام أحمد . وقال الشافعي : قلت لأبي : أي رجل كان عبد الله ابن الإمام أحمد ؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له ، فقال : يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن ، هل لذين من خلف أو عنهما من عوض ؟ كذا في وفيات الأعيان الشافعي لابن خلكان . قال السيوطي في طبقات الحفاظ : روى [ ص: 462 ] عن عمه الشافعي محمد بن علي ، وأبي أسامة ، ، وسعيد بن سالم القداح ، وسفيان بن عيينة ، والإمام مالك ، وإسماعيل ابن علية ، وخلق ، وعنه ابنه وابن أبي فديك أبو عثمان محمد ، ، والإمام أحمد ، وأبو ثور ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو طاهر بن السرح ، وحرملة بن يحيى ، والحسن بن محمد الزعفراني ، والربيع بن سليمان الجيزي وأبو الوليد المكي ، ، وأبو يعقوب البويطي ، وخلق كثير . ويونس بن عبد الأعلى
قال : لما حملت ابن عبد الحكم أم الشافعي به رأت كأن المشترى خرج من فرجها حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية ، فتأوله أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخص علمه أهل مصر ثم ينتشر في سائر البلدان . وقال : إن الله تعالى يقيض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنة ، وينفي عن رسول الله الكذب . فنظرنا فإذا في رأس المائة الإمام أحمد ، وفي رأس المائتين عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - . قال الشافعي - رضي الله عنه - : حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين ، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر . وقال الشافعي الربيع بن سليمان : كان يفتي وله خمس عشرة سنة ، وكان يحيي الليل إلى أن مات . وقال الشافعي : كتب أبو ثور إلى عبد الرحمن بن مهدي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ، ويجمع قبول الأخبار فيه وحجة الإجماع ، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة ، فوضع له كتاب الرسالة . قال الشافعي : ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو ابن مهدي فيها . وقال للشافعي هارون بن سعيد الأيلي : لو أن ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من الخشب لغلب لاقتداره على المناظرة . وكان الشافعي الحميدي يقول حدثنا سيد الفقهاء .
توفي - رحمه الله ورضي عنه - في شهر رجب سنة أربع ومائتين . وقال ابن خلكان : إنه توفي آخر يوم من رجب ، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الصغرى ، وقبره مشهور يزار ويتبرك به ، وأجمع العلماء قاطبة على ثقته وإمامته وعدالته ، وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه ، وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه - رضي الله عنه - ، وكان قد قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة ، فأقام بها شهرا ، ثم خرج إلى الشافعي مصر وكان وصوله إليها سنة خمس وتسعين ومائة ، قاله ابن خلكان ، والله أعلم .
ثم أشار إلى أنه يجب على كل واحد [ ص: 463 ] من هذه الملة ممن له عمل وتقوى أن يقلد واحدا من هؤلاء الأربعة على الأصح الأقوى ، فقال :