الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه: أن جهيس بن أوس النخعي قدم عليه في نفر من أصحابه فقال: يا نبي الله إنا حي من مذحج عباب سالفها، ولباب شرفها،  كرام غير أبرام، نجباء غير دحض الأقدام، وكائن قطعنا إليك من دوية سربخ، وديمومة سردح، وتنوفة صحصح، يضحي أعلامها قامسا، ويمسي سرابها طامسا، على حراجيج كأنها أخاشب بالحومانة مائلة الأرجل، وقد أسلمنا على أن لنا من أرضنا ماءها ومرعاها وهدابها. فقال النبي صلى الله عليه: "اللهم بارك على مذحج، وعلى أرض مذحج، حي حشد رفد زهر". وكتب لهم رسول الله كتابا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة بحقها، وصوم رمضان، فمن أدركه الإسلام وفي يده أرض بيضاء قد سقتها الأنواء فنصف العشر، وما كانت من أرض ظاهرة الماء فالعشر، شهد على ذلك عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن أنيس الجهني.

[ ص: 640 ] يروى هذا الحديث عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وقد حدثت به من طريق ابن المبارك، عن الأوزاعي، رواه عنه عمار بن عبد الجبار المروزي، وفي بعض ألفاظه اختلاف.

قوله: عباب سالفها، العباب أول الماء ومعظمه يريد أنهم أهل سابقة وشرف،  والأبرام اللئام واحدهم برم. يقال رجل برم، وهو الذي لا يخرج مع أصحابه في الميسر شيئا. ودحض الأقدام: جمع داحض، وهم الذين لا ثبات لهم ولا عزيمة في الأمور. ويقال ذلك أيضا للساقط المرتبة. من قولك: دحض الرجل دحضا إذا زلت قدمه، ودحضت حجته إذا بطلت. والدوية: الأرض الملساء التي لا نبات بها. والسربخ: الأرض الواسعة. وأنشدني الحسن بن خلاد قال: أنشدنا ابن دريد، أنشدنا أبو حاتم، أنشدنا الأصمعي لشاعر يصف القطا:


غدت في رعيل ذي أداوى منوطة بلباتها مدبوغة لم تمرخ     إذا سربخ غطت مجال سرابه
تمطت فحطت بين أرجاء سربخ

وقوله: وديمومة سردح، فإن الديمومة المفازة المتقاذفة الأرجاء التي يدوم فيها السير، فلا يكاد ينقطع. والصردح بالصاد: المكان المستوي. فأما بالسين فهو السرداح. قال الأصمعي: وهي الأرض اللينة التي تنبت النصي، وتجمع على السرادح. والصحصح: المكان المستوي الواسع، وهو الصحصحان أيضا.

[ ص: 641 ] وأخبرني أحمد بن أبي ذر، أنا ابن دريد، أنا أبو حاتم، عن الأصمعي: قال: لقيت أعرابيا فقلت: ممن أنت؟ قال: أسدي قلت: من أي البلاد؟ قال: من أهل عمان. قلت: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنا سكنا بأرض لا نسمع بها باخجة التيار، قلت: فصف لي أرضك. قال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صلدح، ورمل أصبح. قلت: فما مالك؟ قال: النخل. قلت: فأين أنت عن الإبل. قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقروها إناء.

قال الباخجة: الصوت. والصلدح الشديد الصلب، وهو الصردح أيضا، والأصبح لون إلى الحمرة، وقرو النخلة أصلها ينقر فيجعل كالجفنة.

وقوله: يضحي أعلامها قامسا، يريد بالأعلام الجبال الطوال، واحدها علم، يريد أن جبالها تبدو أو ترتفع للناظر مرة وتغيب أخرى، وذلك أن لمعان الآل يطفو بالأشخاص في رأي العين، ويرسب بها. والقموس: أن يغيب الشيء في الماء. وطموس السراب دروسه، يريد أنه يذهب مرة ويعود أخرى ؛ كقول الشاعر:


بيد ترى قيزانهن طمسا     بواديا مرا ومرا قمسا

وكان الأشبه أن يكون وسرابها طاميا، وكيف يقمس الجبل ويغيب في سراب طامس. وأراه إنما قال: قامسا بلفظ الواحد؛ لأنه رده إلى كل علم من [ ص: 642 ] أعلامها. قال الكسائي: العرب تأتي بلفظ الجماعة، والمعنى واحد، وأنشد:


وطاب ألبان اللقاح وبرد



أراد بالألبان اللبن، ولذلك قال: وبرد. قال أبو العباس ثعلب: وقد تأتي العرب بلفظ الواحد تريد به الاثنين ؛ كقوله:


إذا رأيت أنجما من الأسد     جبهته أو الخراة والكتد

قال: أراد الخراتين. قال: أخبرني أبو نصر، عن الأصمعي وابن الأعرابي، عن المفضل قال: الخراتان من الأسد كتفاه، قال: وتأتي بالواحد في معنى الجميع، كقوله تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر . فالإنسان هاهنا في معنى الجميع؛ لأنه قد استثنى منه جماعة بقوله: إلا الذين آمنوا . فمحال أن يستثني جماعة من واحد. والحراجيج واحدتها حرجوج. قال الأصمعي: هي الطويلة. وقال أبو عمرو: هي الناقة الضامرة.

والأخاشب: جمع الأخشب، وهو كل جبل خشن غليظ الحجارة. والحومانة واحدة الحوامين. قال الأصمعي: هي أماكن غلاظ منقادة. والهداب ورق الأرطى، والواحدة: هدابة. وكل ما لم ينبسط ورقه كالطرفاء ونحوه فورقه هدب وهداب، ومنه هدب الثوب.

وقوله: حشد معناه أنهم أهل احتشاد ومعونة. والرفد جمع رافد، وهو المعين، والرفد: المعونة.

وقوله: سقتها الأنواء، أي سقتها السماء. والأنواء النجوم، واحدها [ ص: 643 ] نوء. وكان من مذهب العرب أن يضيفوا وقوع المطر إلى الأنواء، فخرج هذا على عادة كلامهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية