الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) ما يسقطها بعد الوجوب فأنواع ( منها ) الإسلام ( ومنها ) الموت عندنا ، فإن الذمي إذا أسلم أو مات سقطت الجزية عندنا وعند الشافعي - رحمه الله - لا تسقط بالموت والإسلام .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الجزية وجبت عوضا عن العصمة بقوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله - جل شأنه - { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } أباح - جلت عظمته - دماء أهل القتال ثم حقنها بالجزية ، فكانت الجزية عوضا عن حقن الدم ، وقد حصل له العوض في الزمان الماضي ، فلا يسقط عنه العوض .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { ليس على مسلم جزية } وعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه رفع الجزية بالإسلام ، فقال : والله إن في الإسلام لمعاذا إن فعل ولأنها وجبت وسيلة إلى الإسلام ، فلا تبقى بعد الإسلام والموت ، كالقتال على أنها وجبت وسيلة إلى الإسلام أن الإسلام فرض بالنصوص والجزية تتضمن ترك القتال ، فلا يجوز شرع عقد الذمة والجزية الذي فيه ترك القتال إلا لما شرع له القتال ، وهو التوسل إلى الإسلام ، وإلا فيكون تناقضا ، والشريعة لا تتناقض وتعذر تحقيق معنى التوسل بعد الموت والإسلام ، فيسقط ضرورة وقوله : إنها وجبت عوضا عن حقن الدم ممنوع بل ما وجبت إلا وسيلة إلى الإسلام ; لأن تمكين الكفرة في دار الإسلام ، وترك قتالهم مع قولهم في الله ما لا يليق بذاته وصفاته - تبارك وتعالى - للوصول إلى عرض يسير من الدنيا ، خارج عن الحكم والعقل فأما التوسل إلى الإسلام ، وإعدام الكفرة فمعقول ، مع ما أنها إن وجبت لحقن الدم ، فإنما تجب كذلك في المستقبل ، وإذا صار دمه محقونا فيما مضى فلا يجوز أخذ الجزية لأجله فتسقط .

                                                                                                                                ( ومنها ) مضي سنة تامة ، ودخول سنة أخرى عند أبي حنيفة وعندهما لا تسقط ، حتى إنه إذا مضى على الذمة سنة كاملة ودخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها الذمي تؤخذ منه للسنة المستقبلة ، ولا تؤخذ للسنة الماضية عنده وعندهما تؤخذ لما مضى ما دام ذميا والمسألة تعرف بالموانيد أنها تؤخذ أم لا ؟ ( وجه ) قولهما أن الجزية أحد نوعي الخراج فلا تسقط بالتأخير إلى سنة أخرى استدلالا بالخراج الآخر ، وهو خراج الأرض ; وهذا لأن كل واحد منهما دين ، فلا تسقط بالتأخير كسائر الديون ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - وجهان ( أحدهما ) أن الجزية ما وجبت إلا لرجاء الإسلام ، وإذا لم يوجد حتى دخلت سنة أخرى ، انقطع الرجاء فيما مضى وبقي الرجاء في المستقبل ، فيؤخذ للسنة المستقبلة والثاني أن الجزية إنما جعلت لحقن الدم في المستقبل ، فإذا صار دمه محقونا في السنة الماضية ، فلا تؤخذ الجزية لأجلها ; لانعدام الحاجة إلى ذلك كما إذا أسلم أو مات تسقط عنه الجزية ; لعدم الحاجة إلى الحقن بالجزية كذا هذا والاعتبار بخراج الأرض غير سديد ، فإن المجوسي إذا أسلم بعد مضي السنة لا يسقط عنه خراج الأرض ، ويسقط عنه خراج الرأس بلا خلاف بين أصحابنا - رحمهم الله - وبه تبين أن هذا ليس كسائر الديون ، فبطل الاعتبار بها والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية