( ومنها ) أن يكون المال متقوما ، فلا تصح فإنها ، وإن كانت مالا حتى تورث لكنها غير متقومة في حق المسلم حتى لا تكون مضمونة بالإتلاف ، فلا تجوز الوصية من المسلم ، وله بالخمر ، ويجوز ذلك من الذمي ; لأنها مال متقوم في حقهم كالخل ، وتجوز بالكلب المعلم ; لأنه متقوم عندنا ألا ترى أنه مضمون بالإتلاف ، ويجوز بيعه ، وهبته سواء كان المال عينا ، أو منفعة عند عامة العلماء حتى تجوز الوصية بالمنافع من خدمة العبد ، وسكنى الدار ، وظهر الفرس . الوصية بمال غير متقوم كالخمر
وقال - رحمه الله - لا تجوز الوصية بالمنافع ( وجه ) قوله : أن الوصية بالمنافع وصية بمال الوارث ; لأن نفاذ الوصية عند الموت ، وعند الموت تحصل المنافع على ملك الورثة ; لأن الرقبة ملكهم ، وملك المنافع تابع لملك الرقبة ، فكانت المنافع ملكهم ; لأن الرقبة ملكهم ، فكانت الوصية بالمنافع وصية من مال الوارث ، فلا تصح ; ولأن الوصية بالمنافع في معنى الإعارة إذ الإعارة تمليك المنفعة بغير عوض ، والوصية بالمنفعة كذلك ، والعارية تبطل بموت المعير ، فالموت لما أثر في بطلان العقد على المنفعة بعد صحته ، فلأن يمنع من الصحة أولى ; لأن المنع أسهل من الرفع . ابن أبي ليلى
( ولنا ) أنه لما ملك تملك حال حياته بعقد الإجارة ، والإعارة ، فلأن يملك بعقد الوصية أولى ; لأنه أوسع العقود ألا ترى أنها تحتمل ما لا يحتمله سائر العقود من عدم المحل ، والحظر ، والجهالة ، ثم لما جاز تمليكها ببعض العقود ، فلأن يجوز بهذا العقد أولى ، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب ( وأما ) قوله إن الوصية وقعت بمال الوارث ، فممنوع ، وقوله : ملك الرقبة عند موت الموصي مسلم لكن ملك المنفعة يتبع ملك الرقبة إذا أفرد المنفعة بالتمليك وإذا لم يفرد الأول ممنوع والثاني مسلم وهنا أفرد بالتمليك فلا يتبع ملك الرقبة وهذا لأن الموصي إذا أفرد ملك المنفعة بالوصية ، فقد جعله مقصودا بالتمليك ، وله هذه الولاية ، فلا يبقى تبعا لملك الذات بل يصير مقصودا بنفسه ، بخلاف الإعارة ; لأن المعير ، وإن جعل ملك المنفعة مقصودا بالتمليك لكن في الحال لا بعد الموت ; لأنه إنما يعار الشيء للانتفاع في حال الحياة عادة لا بعد الموت ، فينتفي العقد بالموت .
وأما الوصية ، فتمليك بعد الموت ، فكان قصده تمليكه المنفعة بعد الموت ، فكانت المنافع مقصودة بالتمليك بعد الموت ، فهو الفرق ، ونظيره من وكل وكيلا في حال حياته ، فمات الموكل ينعزل الوكيل ، ولو أضاف الوكالة إلى ما بعد موته ; جاز حتى يكون وصيا بعد موته ، وسواء كانت الوصية بالمنافع مؤقتة بوقت من سنة أو شهر ، أو كانت مطلقة عن التوقيت ; لأن الوصية بالمنافع في معنى الإعارة ; لأنها تمليك المنفعة بغير عوض ، ثم الإعارة تصح مؤقتة ، ومطلقة عن الوقت .
وكذا الوصية غير أنها إذا كانت [ ص: 353 ] مطلقة ، فللموصى له أن ينتفع بالعين ما عاش ، وإذا كانت مؤقتة بوقت ، فله أن ينتفع به إلى ذلك الوقت ، وإذا جازت الوصية بالمنافع يعتبر فيها خروج العين التي أوصى بمنفعتها من الثلث ، ولا يضم إليها قيمة ، وإن كان الموصى به هو المنفعة ، والعين ملك لم يزل عنه ; ; لأن الموصي بوصيته بالمنافع منع العين عن الوارث ، وحبسها عنه لفوات المقصود من العين ، وهو الانتفاع بها ، فصارت ممنوعة عن الوارث محبوسة عنه ، والموصي لا يملك منع ما زاد عن الثلث على الوارث ، فاعتبر خروج العين من ثلث المال ( ولهذا ) لو أجل المريض مرض الموت دينا معجلا له لا يصح إلا في الثلث ، وإن كان التأجيل لا يتضمن إبطال ملك الدين لكن لما كان فيه منع الوارث عن الدين قبل حلول الأجل لم يصح إلا في قدر الثلث كذا ههنا ، وإذا كان المعتبر خروج العين من الثلث ، فإن خرجت من الثلث ; جازت الوصية في جميع المنافع ، فللموصى له أن ينتفع بها ، فيستخدم العبد ، ويسكن الدار ما عاش إن كانت الوصية مطلقة عن الوقت ، فإذا مات الموصى له بالمنفعة انتقلت إلى ملك صاحب العين ; لأن الوصية بالمنفعة قد بطلت بموت الموصى له ; لأنها تمليك المنفعة بغير عوض كالإعارة ، فتبطل بموت المالك إياه كما تبطل الإعارة بموت المستعير على أن المنافع بانفرادها لا تحتمل الإرث ، وإن كان تملكها بعوض على أصل أصحابنا رضي الله عنهم كإجارة فلان لا يحتمل فيما هو تمليك بغير عوض أولى ، بخلاف ما إذا أوصى بغلة داره ، أو ثمرة نخله ، فمات الموصى له ، وفي النخل ثمر .
وكان وجب بما استغل الدار آخر أن ذلك يكون لورثة الموصى له ; لأن ذلك عين ملكها الموصى له ، وتركه بالموت ، فيصير ميراثا لورثته ، وفي المنفعة لا حتى أن ما يحصل بعد موته لا يكون لورثته بل لورثة الموصي ; لأنه لم يملكه الموصى له ، فلا يورث ، وإن كانت العين لا تخرج من ثلث ماله ; جازت الوصية في المنافع في قدر ما تخرج العين من ثلث ماله بأن لم يكن له مال آخر سوى العين من العبد ، والدار ، تقسم المنفعة بين الموصى له ، وبين الورثة أثلاثا ثلثها للموصى له ، وثلثاها للورثة ، فيستخدم الموصى له العبد يوما ، والورثة يومين ، وفي الدار يسكن الموصى له ثلثها ، والورثة ثلثيها ما دام الموصى له حيا ، فإذا مات ترد المنفعة إلى الورثة ، وحكى عن أبو يوسف - رحمهما الله - أنه إذا أوصى بسكنى داره لرجل ، وليس له مال غيرها ، ولم تجز الورثة إن الوصية باطلة ; لأن الوصية لم تصح في الثلثين ، والشيوع شائع في الثلثين ، والشيوع يؤثر في المنافع كما في الإجارة ( وهذا ) لا يتفرع على أصل ابن أبي ليلى ; لأن الوصية بالمنافع باطلة على أصله ، فتبقى السكنى كلها على ملك الورثة ، فلا يتحقق الشيوع ، ولو أراد الورثة بيع الثلثين ، أو القسمة ليس لهم ذلك ( عند ) ابن أبي ليلى ، وعند أبي حنيفة لهم ذلك ( وجه ) قول أبي يوسف إن الملك مطلق للتصرف في الأصل ، وإنما الامتناع لتعلق حق الغير به ، وحق الغير ههنا تعلق بالثلث لا بالثلثين ; لأن الوصية تعلقت بالثلث لا غير ، فخلا ثلثا الدار عن تعلق حق الغير بها ، فكان لهم ولاية البيع ، والقسمة . أبي يوسف
وكذا الحاجة دعت إلى القسمة لتكميل المنفعة رضي الله عنه أن حق الموصى له بالمنفعة متعلق بمنافع كل الدار على الشيوع ، وذلك بمنع جواز البيع كما في الإجارة ، فإن رقبة المستأجر ملك المؤجر لكن لما تعلق بها حق المستأجر منع جواز البيع ، ونفاذه بدون إجازة المستأجر كذا ههنا . ، ولأبي حنيفة
وكذا في القسمة إبطال حق الموصى له هذا إذا كانت الوصية بالمنافع مطلقة عن الوقت ، فإن كانت مؤقتة ، فإن كانت العين تخرج من ثلث ماله ; فإن الموصى له ينتفع بها إلى الوقت المذكور ، فإن كان المذكور سنة غير معينة ، فينتفع بها الموصى له سنة كاملة ، ثم يعود بعد ذلك إلى الورثة ، وإن كانت لا تخرج من ثلث ماله فبقدر ما يخرج ، وإن لم يكن له مال آخر كانت المنفعة بين الموصى له ، وبين الورثة أثلاثا يخدم العبد يوما للموصى له ، ويومين للورثة ، فيستوفي الموصى له خدمة السنة في ثلاث سنين ، وإن كانت العين الموصى بمنفعتها دارا يسكن الموصى له ثلثها ، والورثة ثلثيها يهايئان مكانا ; لأن التهايؤ بالمكان في الدار ممكن ، وفي العبد لا يمكن لاستحالة خدمة العبد بثلثه لأحدهما ، وبثلثيه للآخر ، فمست الضرورة إلى المهايئات زمانا ، وإن كان المذكور من الوقت سنة بعينها بأن قال : سنة كذا ، أو شهر كذا ، فإن كان الموصى به خدمة العبد ، فإن كان العبد يخرج من الثلث ينتفع بها تلك السنة أو الشهر ، وإن لم يكن له مال آخر ، ففي العبد ينتفع به الورثة يومين [ ص: 354 ] والموصى له يوما ، وفي الدار يسكن الموصى له ثلثها ، والورثة ثلثيها على طريق المهايأة ، فإذا مضت تلك السنة ، أو ذلك الشهر على هذا الحساب يحصل للموصى له منفعة السنة أو الشهر ، ولو أراد أن يكمل ذلك من سنة أخرى ، أو من شهر آخر ليس له ذلك ; لأن الوصية أضيفت إلى تلك السنة ، أو ذلك الشهر لا إلى غيرهما .
ولو عين الشهر الذي هو فيه أو السنة التي هو فيها بأن قال : هذا الشهر ، أو هذه السنة ينظر إن مات بعد مضي ذلك الشهر ، أو تلك السنة بطلت وصيته ; لأن الوصية نفاذها عند موته ، وقد مضى ذلك الشهر ، أو تلك السنة قبل موته فبطلت الوصية ، وإن مات قبل أن يمضي ذلك الشهر ، أو السنة ، فإن كانت العين تخرج من الثلث ينتفع بها فما بقي من الشهر ، أو السنة ، وإن كانت لا تخرج ، وليس له مال آخر ففي العبد ينتفع بها الموصى له يوما ، والورثة يومين إلى أن يمضي ذلك الشهر ، أو السنة ، وفي الدار يسكناها أثلاثا على طريق المهايأة على ما بينا ، ولو أوصى بخدمة عبده لإنسان ، وبرقبته لآخر ، أو بسكنى داره لإنسان ، وبرقبتها لآخر ، والرقبة تخرج من الثلث فالرقبة لصاحب الرقبة ، والخدمة كلها لصاحب الخدمة ; لأن المنفعة لما احتملت الإفراد من الرقبة بالوصية حتى لا تملك الورثة الرقبة ، والموصى له المنفعة ، فيستوي فيها الإفراد باستيفاء الرقبة لنفسه ، وتمليكها من غيره ، فيكون أحدهما موصى له بالرقبة ، والآخر بالمنفعة ، فإذا مات الموصى ملك صاحب الرقبة الرقبة ، وصاحب المنفعة المنفعة ، وكذلك إذا أوصى برقبة شجرة أو بستان لإنسان ، وبثمرته لآخر ، أو برقبة أرض لرجل ، وبغلتها لآخر ، أو بأمة لرجل ، وبما في بطنها لآخر ; لأن الثمر ، والغلة ، والحمل كل واحد منها يحتمل الإفراد بالوصية ، فلا فرق بين أن يستبقي الأصل لنفسه ، وبين أن يملكه من غيره على ما ذكرنا في الوصية بالمنفعة
وسواء كان الموصى به موجودا وقت كلام الوصية ، أو لم يكن موجودا عنده ، فالوصية جائزة إلا إذا كان في كلام الموصي ما يقتضي الوجود للحال ، فتصح الوصية بثلث ماله ، ولا مال له عند كلام الوصية .
وكذا تصح الوصية بغلة بستانه ، أو بغلة أرضه ، أو بغلة أشجاره أو بغلة عبده ، أو بسكنى داره ، أو بخدمة عبده ، وتصح الوصية بما في بطن جاريته ، أو دابته ، وبالصوف على ظهر غنمه ، ، وباللبن في ضرعها ، وثمرة بستانه ، وثمرة أشجاره ، وإن لم يكن شيء من ذلك موجودا للحال .