ذكر أبي يزيد عن المهدية رحيل
لما تفرق أصحابه عنه كما ذكرنا ، اجتمع رؤساء من بقي معه وتشاوروا ، وقالوا : نمضي إلى القيروان ، ونجمع البربر من كل ناحية ، ونرجع إلى أبي يزيد ، فإننا لا نأمن أن يعرف القائم خبرنا فيقصدنا ، فركبوا ومضوا ، ولم يشاوروا أبا يزيد ، ومعهم أكثر العسكر ، فبعث إليهم أبو يزيد ليردهم ، فلم يقبلوا منه ، فرحل مسرعا في ثلاثين رجلا ، وترك جميع أثقاله ، فوصل إلى القيروان سادس صفر ، فنزل المصلى ، ولم يخرج إليه أحد من أهل القيروان سوى عامله ، وخرج الصبيان يلعبون حوله ويضحكون منه .
وبلغ القائم رجوعه ، فخرج الناس إلى أثقاله ، فوجدوا الطعام والخيام ( وغير ذلك ) على حاله ، فأخذوه وحسنت أحوالهم ، واستراحوا من شدة الحصار ، ورخصت الأسعار ، وأنفذ القائم إلى البلاد عمالا يطردون عمال أبي يزيد عنها ، فلما رأى أهل القيروان قلة عسكر أبي يزيد خافوا القائم ، فأرادوا أن يقبضوا أبا يزيد ، ثم هابوه ، فكاتبوا القائم يسألونه الأمان ، فلم يجبهم .
وبلغ أبا يزيد الخبر ، فأنكر على عامله بالقيروان اشتغاله بالأكل والشرب وغير [ ص: 143 ] ذلك ، وأمره أن يخرج العساكر من القيروان للجهاد ، ففعل ذلك ، وألان لهم القول ، وخوفهم القائم ، فخرجوا إليه .
وتسامع الناس في البلاد بذلك ، فأتاه العساكر من كل ناحية ، وكل أهل المدائن والقرى لما سمعوا تفرق عساكره عنه ، أخذوا عماله ، فمنهم ( من قتل ، ومنهم ) من أرسل إلى المهدية .
وثار أهل سوسة ، فقبضوا على جماعة من أصحابه ، فأرسلوهم إلى القائم ، فشكر لهم ذلك ، وأرسل إليهم سبعة مراكب من الطعام ، فلما اجتمعت عساكر أبي يزيد ، أرسل الجيوش إلى البلاد وأمرهم بالقتل والسبي والنهب والخراب وإحراق المنازل ، فوصل عسكره إلى تونس ، فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، فنهبوا جميع ما فيها ، وسبوا النساء والأطفال ، وقتلوا الرجال ، ( وهدموا المساجد ) ، ونجا كثير من الناس إلى البحر فغرق .
فسير إليهم القائم عسكرا إلى تونس ، فخرج إليهم أصحاب أبي يزيد ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم عسكر القائم هزيمة قبيحة ، وحال بينهم الليل ، والتجئوا إلى جبل الرصاص ، ثم إلى اصطفورة ، فتبعهم عسكر أبي يزيد فلحقوهم واقتتلوا ، وصبر عسكر القائم ، فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير ، وقتلوا ، حتى دخلوا تونس خامس ربيع الأول وأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد بعد أن قتلوا أكثرهم ، وأخذ لهم من الطعام شيء كثير .
وكان لأبي يزيد ولد اسمه أيوب ، فلما بلغه الخبر أخرج معه عسكرا كثيرا ، فاجتمع مع من سلم من ذلك الجيش ، ورجعوا إلى تونس فقتلوا من عاد إليها وأحرقوا ما بقي فيها ، وتوجه إلى باجة ، فقتل من بها من أصحاب القائم ، ودخلها بالسيف وأحرقها ، وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف .
واتفق جماعة على قتل أبي يزيد ، وأرسلوا إلى القائم فرغبهم ووعدهم ، فاتصل الخبر بأبي يزيد فقتلهم ، وهجم رجال من البربر في الليل على رجل من أهل القيروان ، وأخذوا ماله وثلاث بنات أبكار ، فلما أصبح واجتمع الناس لصلاة الصبح ، قام الرجل في [ ص: 144 ] الجامع وصاح ، وذكر ما حل به ، فقام الناس معه وصاحوا ، فاجتمع الخلق العظيم ، ووصلوا إلى أبي يزيد فأسمعوه كلاما غليظا ، فاعتذر إليهم ولطف بهم وأمر برد البنات .
فلما انصرفوا وجدوا في طريقهم رجلا مقتولا ، فسألوا عنه ، فقيل إن فضل بن أبي يزيد قتله وأخذ امرأته ، وكانت جميلة ، فحمل الناس المقتول إلى الجامع ، وقالوا : لا طاعة إلا للقائم ، وأرادوا الوثوب بأبي يزيد ، فاجتمع أصحاب أبي يزيد عنده ولاموه ، وقالوا : فتحت على نفسك ما لا طاقة لك به لا سيما والقائم قريب منا ، فجمع أهل القيروان ، واعتذر إليهم ، وأعطاهم العهود أنه لا يقتل ، وينهب ، ولا يأخذ الحريم ، فأتاه سبي أهل تونس وهم عنده ، فوثبوا إليهم وخلصوهم .
وكان القائم قد أرسل إلى مقدم من أصحابه يسمى علي بن حمدون يأمره بجمع العساكر ومن قدر عليه من المسيلة ، فجمع منها ومن سطيف وغيرها ، فاجتمع له خلق كثير ، وتبعه بعض بني هراس فقصد المهدية ، فسمع به أيوب بن أبي يزيد ، وهو بمدينة باجة ، ولم يعلم به علي بن حمدون ، فسار إليه أيوب وكبسه واستباح عسكره ، وقتل فيهم وغنم أثقالهم ، وهرب علي المذكور ، ثم سير أيوب جريدة خيل إلى طائفة من عسكر المهدي خرجوا إلى تونس ، فساروا واجتمعوا ، ووقع بعضهم على بعض ( فكان بين الفريقين قتال عظيم ) ( قتل فيه ) جمع كثير وانهزم عسكرالقائم ، ثم عادوا ثانية وثالثة ، ( وعزموا على الموت ، وحملوا ) حملة رجل واحد ، فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلا ذريعا ، وأخذت أثقالهم وعددهم ، وانهزم أيوب وأصحابه إلى القيروان في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة .
فعظم ذلك على أبي يزيد ، وأراد أن يهرب ( عن القيروان ) ، فأشار عليه [ ص: 145 ] أصحابه بالتوقف وترك العجلة ، ثم جمع عسكرا عظيما ، وأخرج ابنه أيوب ثانية لقتال علي بن حمدون بمكان يقال له بلطة ، وكانوا يقتتلون ، فمرة يظفر أيوب ، ومرة يظفر علي ، وكان علي قد وكل بحراسة المدينة من يثق به ، وكان يحرس بابا منها رجل اسمه أحمد ، فراسل أيوب في التسليم إليه على مال يأخذه ، فأجابه أيوب إلى ما طلب ، وقاتل على ذلك الباب ، ففتحه أحمد ودخله أصحاب أبي يزيد ، فقتلوا من كان بها ، وهرب علي إلى بلاد كتامة في ثلاثمائة فارس وأربعمائة راجل ، وكتب إلى قبائل كتامة ونفزة ومزاتة وغيرهم ، فاجتمعوا وعسكروا على مدينة القسنطينة .
ووجه عسكرا إلى هوارة ، فقتلوا هوارة ، وغنموا أموالهم ، وكان اعتماد أبي يزيد عليهم ، فاتصل الخبر بأبي يزيد ، فسير إليهم عساكر عظيمة يتبع بعضهم بعضا ، وكان بينهم حروب كثيرة ، والفتح والظفر في كلها لعلي وعسكر القائم ، وملك مدينة تيجس ، ومدينة باغاية ، وأخذهما من أبي يزيد .