ذكر الحاكم وولاية ابنه هشام وفاة
وفي هذه السنة توفي الحاكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر بالله الأموي ، صاحب الأندلس ، وكانت إمارته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ، وعمره ثلاثا وستين سنة وسبعة أشهر ، وكان أصهب أعين ، أقنى ، عظيم [ ص: 349 ] الصوت ، ضخم الجسم ، أفقم ، وكان محبا لأهل العلم ، عالما فقيها في المذاهب ، عالما بالأنساب والتواريخ ، جماعا للكتب والعلماء ، مكرما لهم ، محسنا إليهم ، أحضرهم من البلدان البعيدة ليستفيد منهم ويحسن إليهم .
ولما توفي ولي بعده ابنه هشام بعهد أبيه ، وله عشر سنين ، ولقب المؤيد بالله ، واختلفت البلاد في أيامه ، وأخذ وحبس ، ثم عاد إلى الإمارة .
وسببه أنه لما ولي المؤيد تحجب له المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري ، وابناه المظفر والناصر ، فلما حجب له أبو عامر حجبه عن الناس ، فلم يكن أحد يراه ولا يصل إليه ، وقام بأمر دولته القيام المرضي ، وعدل في الرعية ، وأقبلت الدنيا إليه ، واشتغل بالغزو ، وفتح من بلاد الأعداء كثيرا ، وامتلأت بلاد الأندلس بالغنائم والرقيق ، وجعل أكثر جنده منهم كواضح الفتى وغيره من المشهورين ، وكانوا يعرفون بالعامريين .
( وأدام الله ) له الحال ستا وعشرين سنة ، غزا فيها اثنتين وخمسين غزاة ما بين صائفة وشاتية ، وتوفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، وكان حازما ، قوي العزم ، كثير العدل والإحسان ، حسن السياسة .
فمن محاسن أعماله : أنه دخل بلاد الفرنج غازيا ، فجاز الدرب إليها ، وهو مضيق بين جبلين ، وأوغل في بلاد الفرنج يسبي ، ويخرب ، ويغنم ، فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب وهم عليه يحفظونه من المسلمين ، فأظهر أنه يريد المقام في بلادهم ، وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات ، وأحضروا الحطب ، والتبن ، والميرة ، وما يحتاجون إليه ، فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم ، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده ، فقال : أنا عازم على المقام ، فتركوا له الغنائم ، فلم يجبهم إلى الصلح ، فبذلوا له مالا ، ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم ، فأجابهم إلى الصلح ، وفتحوا الدرب ، فجاز إلى بلاده .
وكان أصله من الجزيرة الخضراء ، وورد شابا إلى قرطبة ، طالبا للعلم والأدب وسماع الحديث ، فبرع فيها وتميز ، ثم تعلق بخدمة صبح والدة المؤيد ، وعظم محله عندها ، فلما مات الحاكم المستنصر كان المؤيد صغيرا ، فخيف على الملك أن يختل ، فضمن لصبح سكون البلاد ، وزوال الخوف ، وكان قوي النفس ، وساعدته المقادير ، [ ص: 350 ] وأمدته الأمراء بالأموال ، فاستمال العساكر ، وجرت الأمور على أحسن نظام .
وكانت أمه تميمية ، وأبوه معافريا ، بطن من حمير ، فلما توفي ولي بعده ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر ، فسار كسيرة أبيه ، وتوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، فكانت ولايته سبع سنين .
وكان سبب موته أن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها ، فناول أخاه ما يلي الجانب المسموم ، وأخذ هو ما يلي الجانب الصحيح ، فأكله بحضرته ، فاطمأن المظفر ، وأكل ما بيده منها فمات .
فلما توفي ولي بعده أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر ، فسلك غير طريق أبيه وأخيه ، وأخذ في المجون ، وشرب الخمور ، وغير ذلك ، ثم دس إلى المؤيد من خوفه منه إن لم يجعله ولي عهده ، ففعل ذلك ، فحقد الناس وبنو أمية عليه ذلك ، وأبغضوه ، وتحركوا في أمره إلى أن قتل .
وغزا شاتية ، وأوغل في بلاد الجلالقة ، فلم يقدم ملكها على لقائه ، وتحصن منه في رءوس الجبال ، ولم يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار ، وكثرة الثلوج ، فأثخن في البلاد التي وطئها ، وخرج موفورا ، فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله بقرطبة ، واستيلاؤه عليها وأخذه المؤيد أسيرا ، فتفرق عنه عسكره ، ولم يبق معه إلا خاصته ، فسار إلى قرطبة ليتلافى ذلك الخطب ، فخرج إليه عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة فطافوا به ، وكان قتله سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، ثم صلبوه .