ذكر المؤيد إلى إمارة الأندلس وما كان منه عود
قد ذكرنا سبب خلعه وحبسه ، فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته ، واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر ، وكان عوده تاسع ذي الحجة ، وكان الحكم [ ص: 566 ] في دولته هذه إلى واضح العامري ، وأدخل أهل قرطبة إليه ، فوعدهم ومناهم ، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ، ودعاهم إلى طاعته والوفاء ببيعته ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط ، فأحبه الناس .
ثم نقل إليه أن نفرا من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان ، وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد ، فأخذهم وحبسهم ، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة ، فركب الجند وأهل قرطبة ، وخرجوا إليهم مع المؤيد ، فعاد البربر وتبعتهم عساكره ، فلم يلحقوهم . وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء .
ثم إن سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه ، وبذلوا له تسليم حصون كان قد فتحها منهم ، فأرسل ملك الفرنج إلى المنصور بن أبي عامر المؤيد يعرفه الحال ، ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر . فاستشار أهل قرطبة في ذلك ، فأشاروا بتسليمها إليه خوفا من أن ينجدوا سليمان ، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة . فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا ، فنزلوا قريبا من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة ، وجعلت خيلهم تغير يمينا وشمالا ، وخربوا البلاد .
وعمل المؤيد وواضح العامري سورا وخندقا على قرطبة أمام السور الكبير ، ثم نزل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوما ، فلم يملكها ، فانتقل إلى الزهراء وحصرها ، وقاتل من بها ثلاثة أيام . ثم إن بعض الموكلين بحفظها سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه ، فصعد البربر السور ، وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم ، وملكوا البلد عنوة ، وقتل أكثر من به من الجند ، وصعد أهل الجبل ، واجتمع الناس بالجامع ، فأخذهم البربر وذبحوهم حتى النساء والصبيان ، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار ، فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال .
ثم إن واضحا كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سرا ، ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها ، ونمى الخبر إلى المؤيد ، فقبض عليه وقتله ، واشتد الأمر [ ص: 567 ] بقرطبة ، وعظم الخطب ، وقلت الأقوات ، وكثر الموت ، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد ، لأنهم كانوا قد خربوا البلاد ، وجلا أهل قرطبة ، وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان .
ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة ، وضيقوا عليهم ، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيد الله بن محمد بن عبد الجبار ، وبايعه أهلها ، فسير إليهم المؤيد جيشا ، فحصروهم ، فعادوا إلى الطاعة ، وأخذ عبيد الله أسيرا ، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة .
ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير ، وغرق في النهر مثلهم ، فرحلوا عنها ، وساروا إلى إشبيلية فحصروها ، فأرسل المؤيد إليها جيشا فحماها ومنع البربر عنها ، وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه ، فأجابوه وأطاعوه ، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح فملكوها وغنموا ما فيها ، واتخذوها دارا ، ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها ، وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف ، واشتد القتال عليها ، وملكها سليمان عنوة وقهرا ، وقتلوا من وجدوا في الطرق ، ونهبوا البلد وأحرقوه ، فلم تحص القتلى لكثرتهم .
ونزل البربر في الدور التي لم تحرق ، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله ، وأخرج المؤيد من القصر ، وحمل إلى سليمان ، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها .
ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة ، ثم خرج إلى شرق الأندلس ( من عنده ) . وكان ممن قتل في هذا الحصر مظلوما رحمه الله . أبو الوليد بن الفرضي