الحيلة الخامسة : إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال ، لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا ، ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا : احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت السنة وإجماع [ ص: 357 ] الصحابة - مع دلالة القرآن وشواهد الأصول - على تحريمه وفساده . ثم قد تولد من من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، كما نبهنا على بعضه في كتاب " [ بيان ] الدليل على إبطال التحليل " ، وأغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل : هو الحلف بالطلاق ، وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده ، ومن قصده لم يترتب عليه عنده من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر إلى وقوعه لحاجته إلى الحنث . نكاح المحلل
فهذه المفاسد الخمسة التي هي الاحتيال على نقض الأيمان ، وإخراجها عن مفهومها ومقصودها ، ثم الاحتيال بالخلع وإعادة النكاح ، ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح ، ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق ، ثم الاحتيال بنكاح المحلل - في هذه الأمور من المكر والخداع والاستهزاء بآيات الله ، واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الله ، ويوجب طعن الكفار فيه ، كما رأيته في بعض كتب النصارى وغيرهم . ويتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام بريء منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان ، وأن أكثر ما أوقع الناس فيها ، وأوجب كثرة إنكار الفقهاء عليها واستخراجهم لها : هو حلف الناس بالطلاق ، واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة ، حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل ، وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم ، كما كان الشيخ يقول : مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة ، فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس ، فاستحقها غيره : [ ص: 358 ] انهدم بناؤه ؛ فإن تلك الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة . أبو محمد المقدسي
فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك ، وصار في هؤلاء شبه بأهل الكتاب ، كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم ، مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا أفتى به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ، ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان ، ولا العلماء بعدهم ، ولا هو مناسب لأصول الشريعة ، ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة استندت على قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة ، وهم - ولله الحمد - فوق ما يظن بهم ، لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله وإلى رسوله ، وقد خالفهم فيه من ليس دونهم ، بل مثلهم أو فوقهم . فإنا قد ذكرنا عن أعيان من الصحابة - المجمع على إمامته وفقهه ودينه ، وأخته كعبد الله بن عمر ، حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وهي من أمثل فقيهات الصحابة : الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق ، والطلاق أولى منه . وذكرنا عن وهو من أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا ؛ أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له . طاوس
فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد ، وحاله في الشريعة هذه الحال : كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله ، كما نبهنا عليه في [ ص: 359 ] ضمان الحدائق لمن يزرعها ويستثمرها ، وبيع الخضر ونحوها .
وذلك : أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه ، أو ليعقن أباه ، أو ليقتلن عدوه المسلم المعصوم ، أو ليأتين الفاحشة ، أو ليشربن الخمر ، أو ليفرقن بين المرء وزوجه ، ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش ، فهو بين ثلاثة أمور : إما أن يفعل هذا المحلوف عليه ، فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة ، مع أن كثيرا من الناس بل من المفتين : إذا رآه قد حلف بالطلاق ، كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه وإقامة عذره .
وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة ، كما استخرجه قوم من المفتين . ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته والمكر السيئ بدينه والكيد له ، وضعف العقل والدين ، والاعتداء لحدود الله ، والانتهاك لمحارمه والإلحاد في آياته ما لا خفاء به ، وإن كان من إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك ، فقد دخل من الغلط في ذلك - وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المتقي لله - ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين .
وإما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه ، بل يطلق امرأته كما يفعله من يخشى الله إذا اعتقد وقوع الطلاق . ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن به الله ولا رسوله .