الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فصل .

              والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك ، وقالوا هذه في المزارعة . فأما إن كان البذر من العامل لم يجز ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي ، حيث يجوزون المزارعة . وحجة هؤلاء : قياسها على المضاربة ، وبذلك احتج أحمد أيضا . قال الكرماني : قيل [ ص: 249 ] لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل : رجل دفع أرضه إلى الأكار على الثلث والربع ؟ قال : لا بأس بذلك ، إذا كان البذر من رب الأرض ، والبقر والحديد والعمل من الأكار ، يذهب فيه مذهب المضاربة .

              ووجه ذلك : أن البذر هو أصل الزرع ، كما أن المال هو أصل الربح . فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ، ليكون من أحدهما العمل ، ومن الآخر الأصل .

              والرواية الثانية عنه : لا يشترط ذلك ، بل يجوز أن يكون البذر من العامل ، وقد نقل عنه جماهير أصحابه - أكثر من عشرين نفسا - أنه يجوز أن يكري أرضه بالثلث والربع ، كما عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر .

              فقالت طائفة من أصحابه - كالقاضي أبي يعلى - : إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك ، فإن كان على وجه الإجارة جاز ، وإن كان على وجه المزارعة لم يجز . وجعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه ; لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها ، ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم ، من أنه لا يجوز في المزارعة [ إلا ] أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ، ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة وباب الإجارة .

              وقال آخرون - منهم أبو الخطاب - معنى قوله في رواية الجماعة : " يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها " أراد به : [ ص: 250 ] المزارعة والعمل من الأكار ، قال أبو الخطاب ومتبعوه : فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها ، وإن كان من صاحب الأرض : فهو مستأجر للعامل بما شرط له ، قال : فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره ، وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط .

              وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة ، على أن يبذر الأكار : هو الصحيح ، ولا يحتمل الفقه إلا هذا ، وأن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى . وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا . وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه ، واختيار طائفة من أصحابه .

              والقول الأول : قول من اشترط أن يبذر رب الأرض ، وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة : هو في الضعف نظير من سوى بين الإجارة الخاصة والمزارعة ، أو أضعف .

              أما بيان نص أحمد : فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع ، استدلالا بقصة معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر ، ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الإجارة . فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بلفظ [الإجارة] ، ويمنع فعله باللفظ المشهور .

              وأيضا فقد ثبت في الصحيح : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارط أهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم " كما تقدم ، ولم يدفع إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذرا ، فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانوا يبذرون فيها [ ص: 251 ] من أموالهم ، فكيف يحتج بها أحمد على المزارعة ، ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة ، ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل ؟ ! والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال لليهود : " نقركم فيها ما أقركم الله " ، لم يشترط مدة معلومة حتى يقال : كانت إجارة لازمة ، لكن أحمد حيث قال : - في إحدى الروايتين - إنه يشترط كون البذر من المالك ، فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة ، وإذا أفتى العالم بقول لحجة ولهما معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح ، ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر ، فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل ، وإلا لم يصح الاستدلال ، فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل ، كما فرق بينهما طائفة من أصحابه ، فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا ، فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة ، ويمنعونها بلفظ المزارعة ، وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع ، ويمنعونه بلفظ السلم ; لأنه يصير سلما حالا ، ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة صيغ العقود . فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ ، كما شهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات ، وإن كان هو قد فرق بينهما ، كما فرق طائفة من أصحابه ، فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة ، كالرواية المانعة من الأمرين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية