الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء ، كأحد القولين في مذهب مالك ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، فهو قول مرجوح .

              [ ص: 350 ] ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه ، وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة .

              وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء : إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه ، لأنه لا استثناء فيه - لزم من هذا القول : أنه لا استثناء في الحلف بهما . وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال : يصح في الحلف بهما الاستثناء ، ولا يصح فيه الكفارة - فهذا الفرق ما أعلمه منصوصا عليه عن أحمد ، ولكنهم معذورون فيه من قوله ؛ حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين [ كما نص في الاستثناء في الحلف بهما على روايتين ] .

              لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها ، ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ، ولو تفطن لكان : إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها ، بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه ، ويعتقد أنها غير لوازم .

              والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه : فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم ، لا بنفي ولا إثبات ، أو نص على نفيه . وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص . فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم - وخرجوا عليه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة ، مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين ، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر ، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء ، وعنه في الاستثناء روايتان - فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم [ فيه ] بنفي ولا إثبات : هل يسمى ذلك مذهبا له ، أو لا يسمى ؟

              [ ص: 351 ] ولأصحابنا فيه خلاف مشهور . فالأثرم والخرقي وغيرهما : يجعلونه مذهبا له ، والخلال وصاحبه وغيرهما : لا يجعلونه مذهبا له .

              والتحقيق : أنه قياس قوله : [ ولازم قوله ] ، فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ، ولا هو أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله ، بل هو منزلة بين المنزلتين . هذا حيث أمكن أن لا يلتزمه .

              وأيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به ، [ أو ملزما له ] إذا أوقعه صاحبه ، وكذلك العتق ، وكذلك النذر .

              وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد ، أو تحريم أشياء عليه . والوجوب والتحريم : إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه ، فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق . ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور ، كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة ؛ لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه ، لم يقصد حكمها ، ولا قصد التكلم بها ابتداء .

              فكذلك الحالف إذا قال : إن لم أفعل كذا فعلي الحج أو الطلاق ، ليس قصده التزام حج ولا طلاق ، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء ، وإنما قصده الحض على ذلك الفعل ، أو منع نفسه منه ، كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ، ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع : إن فعلت كذا فهذا لي لازم ، أو هذا علي حرام ، لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به ، فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه . وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه ، وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم .

              [ ص: 352 ] وأيضا : فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة ، لم يبلغني أنه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة ، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف . وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال ، والطلاق والعتاق . وإني لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق ، وإنما الذي بلغنا عنهم : الجواب في الحلف بالعتق ، كما تقدم .

              ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارا عظيما ، ثم لما اعتقد من اعتقد : أن الطلاق يقع بها لا محالة ، صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل ، ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد والحيل في الأيمان ، حتى اتخذوا آيات الله هزوا .

              وذلك : أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها ، إما شرعا وإما طبعا [ وعلى فعل أمور يمتنع فعلها شرعا أو طبعا ] وغالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب ، ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود . وقد قيل : إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره ، لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق ، لما فيه من المفسدة ، فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة ، وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل ، فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل ، أخذت عن الكوفيين وغيرهم :

              الحيلة الأولى في المحلوف عليه : فيتأول لهم خلاف ما قصدوه وخلاف ما يدل على الكلام في عرف الناس وعاداتهم . وهذا هو [ ص: 353 ] الذي [ وضعه ] بعض المتكلمين في الفقه ، وسموه باب المعاياة ، وسموه باب الحيل في الأيمان . وأكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين ، ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه . ولهذا كان الأئمة - كأحمد وغيره - يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية