وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه . فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود عن والنسائي رضي الله عنها قالت : عائشة فقال : " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد التفات الرجل في الصلاة " . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
[ ص: 79 ] وروى أبو داود عن والنسائي أبي الأحوص ، عن أبى ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " ، وأما لحاجة فلا بأس به كما روى لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال : " " قال ثوب بالصلاة - يعني صلاة الصبح - فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب أبو داود : وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس ، وهذا كحمله من أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وفتحه الباب زينب بنت رسول الله ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم ، وتأخره في صلاة الكسوف ، وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته ، وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة ، وأمره برد المار بين يدي المصلي ومقاتلته ، وأمره النساء بالتصفيق ، وإشارته في الصلاة ، وغير ذلك من لعائشة ، ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة . الأفعال التي تفعل لحاجة
ويدل على ذلك أيضا : ما رواه تميم الطائي عن رضي الله عنه قال : " جابر بن سمرة : وأراه قال : في الصلاة - فقال : ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ اسكنوا في الصلاة زهير بن معاوية " رواه دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعو أيديهم - قال الراوي وهو مسلم وأبو داود ، ورووا أيضا عن والنسائي عبيد الله بن القبطية ، عن رضي الله عنه قال : " جابر بن سمرة " وفي رواية قال : " كنا إذا صلينا [ ص: 80 ] خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال : ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس ؟ إنما يكفي أحدكم - أو : ألا يكفي أحدكم - أن يقول هكذا - وأشار بإصبعه - يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ؟ " . أما يكفي أحدكم - أو أحدهم - أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله
ولفظ : " مسلم " . صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا : السلام عليكم ، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يقتضي السكون فيها كلها ، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة ، فمن لم يطمئن لم يسكن فيها ، وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها ، وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث . بالسكون في الصلاة
ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهي عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك - فقد غلط ، فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال .
ويبين ذلك قوله : " " والشمس جمع شموس وهو الذي [ تسميه ] العامة الشموص ، وهو [ الذي ] يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال ، وهى حركة لا سكون فيها . ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل [ ص: 81 ] شمس ؟
وأما بمثل رفعها عند الاستفتاح ، فذلك مشروع باتفاق المسلمين ، فكيف يكون الحديث نهيا عنه ؟ رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع
وقوله : " " يتضمن ذلك ؛ ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب اسكنوا في الصلاة فرفع عبد الله بن المبارك يديه فقال له : أتريد أن تطير ؟ فقال : " إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية ، وإلا فلا " وهذا نقض لما ذكره من المعنى . ابن المبارك
وأيضا فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الرفع ، فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معارضا ، بل لو [ قدر تعارضها ] فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها ، وهذا الرفع فيه سكون ، فقوله : " " لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة ، بل قوله : " اسكنوا " يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين ، فبين هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ؛ ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة ، فإن [ ص: 82 ] السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المشي إليها وهى حركة إليها ، فكيف بالحركة فيها؟ فقال : " اسكنوا في الصلاة " . إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وائتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا
وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة، فعن رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبى هريرة وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وائتوها تمشون " . رواه البخاري ومسلم وأبو داود . قال وابن ماجه أبو داود : وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر عن وشعيب بن أبي حمزة : " الزهري " وقال وما فاتكم فأتموا عن ابن عيينة " فاقضوا " قال الزهري محمد بن عمر عن أبي سلمة عن رضي الله عنه ، أبي هريرة وجعفر بن أبي ربيعة عن عن الأعرج : " فأتموا " أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " فأتموا " وروى وابن مسعود أبو داود عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " قال ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم أبو داود : وكذا قال عن ابن سيرين رضي الله عنه : " وليقض " وكذلك قال أبي هريرة أبو رافع عن ، أبي هريرة وأبو ذر رضي الله عنه روي عنه : " فأتموا ، واقضوا " اختلف عنه .
[ ص: 83 ] فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك ؛ لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال . بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة
فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى ، لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ، ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة ، فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام ، وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها ، وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها ، فكيف فيها ؟
يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كعب بن عجرة " فقد نهاه صلى الله عليه وسلم في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردا ، فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك ؟ فإذا كان منهيا عن السرعة والعجلة في المشي ، مأمورا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له ، فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها . إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد ، فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة
ويدل على ذلك : أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقا فقال : ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) [ لقمان : 19 ] ، وقال تعالى : [ ص: 84 ] ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ الفرقان ] قال الحسن وغيره : بسكينة ووقار ، فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء ، فإذا كان مأمورا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة ، فكيف الأفعال العبادية ؟ ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود ؟ فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط ، وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما ، وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها ، وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به ، كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه ولم يطعمه .
وأيضا : فإن ، وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى : ( الله تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب والسنة ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) [ الحج : 77 ] ، وقوله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) [ القلم ] وقوله تعالى : ( فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) [ الانشقاق ] وقوله تعالى : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) [ السجدة ] ، وقوله تعالى : ( واسجد واقترب ) [ العلق : 19 ] ، وقوله تعالى : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) [ الحج : 18 ] فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب ، وقوله : ( ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) [ الإنسان ] ، وقوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ ص: 85 ] [ الحجر ] وقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ المرسلات ] وقوله تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) [ المائدة ] وإذا كان الله عز وجل قد فرض الركوع والسجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين للناس ما نزل إليهم ، وسنته تفسر الكتاب وتبينه ، وتدل عليه وتعبر عنه ، وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما امتثله وفسره ، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا ، وكان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع والسجود ، وتفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن ، وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود ، وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها ، قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة ، والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة ، وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده ، وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع .
وأيضا : فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات ، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك ؛ إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ؛ ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله ، فلما لم يبين - لا بقوله ولا بفعله - جواز ترك ذلك مع مداومته عليه ، كان ذلك دليلا على وجوبه .
وأيضا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري لمالك بن [ ص: 86 ] الحويرث وصاحبه : " إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما رأيتموني أصلي " فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي . أنه قال
وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لهم ، ولا معارض لذلك ولا مخصص ، فإن . الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أنه قال : " سهل بن سعد " . لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وكبر وكبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي
وفي سنن أبي داود عن والنسائي سالم البراد قال : " عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود ، فقلنا له : حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام بين أيدينا في المسجد فكبر ، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، فقام حتى استقر كل شيء منه ، ثم كبر وسجد ووضع كفه على الأرض ، ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ، ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ، ففعل ذلك أيضا ، ثم صلى أربع ركعات مثل هذا الركعة فصلى صلاته ، ثم قال : هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي " . أتينا
[ ص: 87 ] وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين ، وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه ، ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك ، وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة قولا وفعلا ، ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب .