ومعلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد ، وهم أئمة ، ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك ، فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة ، وحصل بذلك نقصان في وقت الصلاة وفعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك ، وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم : ( ابن مسعود فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) فكان يقول : " كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ؟ إذا ترك فيها شيء قيل : تركت السنة ؟ فقيل : متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال : ذلك إذا ذهب علماؤكم وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة ، وتفقه لغير الدين " ، وكان يقول أيضا : " أنا من غير عبد الله بن مسعود الدجال أخوف عليكم من الدجال ، أمور تكون من كبرائكم ، فأيما رجل أو امرأة [ ص: 109 ] أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول " .
ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد ابن عمه - وعمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك - صلى خلفه رضي الله عنه ، فقال ما رواه أنس بن مالك أبو داود عن والنسائي رضي الله عنه : " أنس بن مالك ، قال : " فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات ، وفي سجوده عشر تسبيحات عمر بن عبد العزيز " وهذا كان في ما صليت وراء أحد بعد رسول صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى " يعني : المدينة ، مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار ، فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك ، والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا ، ولكن كانوا قد غيروا أيضا بعض السنة ، ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة فقد غلط ، فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يدرك خلافة أنس بن مالك ، بل مات قبل ذلك بسنتين . عمر بن عبد العزيز
وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي عن وابن ماجه ، عن عون بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عبد الله بن مسعود - وذلك أدناه - وإذا سجد فليقل : سبحان ربي الأعلى ثلاثا ، وذلك أدناه إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات : سبحان ربي العظيم " ، قال أبو داود : هذا مرسل ؛ عون لم يدرك ، وكذلك قال عبد الله بن مسعود في تاريخه ، وقال البخاري : ليس إسناده بمتصل ، الترمذي لم يدرك عون بن عبد الله ، ابن مسعود عون هو من علماء [ ص: 110 ] الكوفة المشهورين ، وهو من أهل بيت عبد الله ، وقيل : إنما تلقاه من علماء أهل بيته ؛ فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد ، حتى صاروا يقولون في الثلاث : إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع ، وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا .
فقول من يقول من الفقهاء : إن من أصل السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وغيرهم ، هو من جنس قول من يقول : من السنة أن أو أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو نحو ذلك ، فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا ، بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه ، ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت " ولم يعرفوا مقدار [ التطويل ] ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف ، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء لمعاذ : " معاذ ؟ " فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ، ومن المعلوم أن أفتان أنت يا ، فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد ؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات ، وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم ، فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي ، وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن [ ص: 111 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرده بالرأي والقياس . مقدار الصلاة - واجبها ومستحبها - لا يرجع فيه إلى غير السنة