فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان : معاوضات ، ومشاركات .
فالمعاوضات : كالبيع والإجارة .
: شركة الأملاك ، وشركة العقد . والمشاركات
ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال ، واشتراك الناس في المباحات ، كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات ، وما يحيا من الموات ، أو يوجد من المباحات ، واشتراك الورثة في الميراث ، واشتراك الموصى لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف ، واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك . وهذان الجنسان هما منشأ الظلم ، كما قال تعالى عن داود عليه السلام : ( وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) [ص : 24 ] .
[ ص: 234 ] والتصرفات الأخرى هي الفضلية ، كالقرض والعارية والهبة والوصية . وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة ، فمعلوم قطعا : أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة ، ليسا من جنس المعاوضة المحضة ، والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة ; لأنه أكل مال بالباطل . وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر ; لأنه إن لم ينبت الزرع فإن رب الأرض [لم يأخذ] منفعة الآخر ، إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصوده ، بل ذهبت منفعة بدنه ، كما ذهبت منفعة أرض هذا ، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه ، والآخر لم يأخذ شيئا ، بخلاف وإجارة الغرر ، فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر ، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما . وهذا المعنى منتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم ألبتة ، لا في غرر ولا في غير غرر . بيوع الغرر
ومن تأمل هذا تبين له مأخذ هذه الأصول ، وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة ، وأعرف في العقول ، وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض ، بل ومن جواز كثير من البيوع والإجارات المجمع عليها ، حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد . وإنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار : من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض . وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا ، كعمل الشريكين في المال المشترك ، وعمل الشريكين في شركة [ ص: 235 ] الأبدان ، وكاشتراك الغانمين في المغانم ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى ، نعم ، لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله : كان هذا إجارة .
الوجه الثاني : أن هذه من جنس المضاربة . فإنها عين تنمو بالعمل عليها ، فجاز العمل عليها ببعض نمائها ، كالدراهم والدنانير ، جوزها الفقهاء كلهم ، اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة - رضي الله عنهم - مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولقد كان والمضاربة أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة ; لأنها ثبتت بالنص ، فتجعل أصلا يقاس عليه ، وإن خالف فيها من خالف . وقياس كل منهما على الآخر صحيح ، فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما .
فإن قيل : الربح في المضاربة ليس من عين الأصل ، بل الأصل يذهب ويجيء بدله . فالمال المقسم حصل بنفس العمل ، بخلاف الثمر والزرع فإنه من نفس الأصل .
قيل : هذا الفرق فرق في الصورة ، وليس له تأثير شرعي . فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال . ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح ، كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم . وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا .
ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر ، إنما حصلت بغير عقد لما أقرض لابني أبو موسى الأشعري عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما . فطلب عمر جميع الربح ; لأنه رأى ذلك [ ص: 236 ] كالغصب ، حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين ، والمال مشترك ، وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك ، وقال له ابنه عبد الله : " الضمان كان علينا ، فيكون الربح لنا " فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة .