62 - كتاب الإعلام بحكم عيسى عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد : فقد ورد علي سؤال يوم الخميس سادس جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وثمانمائة صورته : المسئول الجواب عما يذكر وهو عيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان ، بماذا يحكم في هذه الأمة بشرع نبينا أو بشرعه ؟ وإذا قلتم إنه يحكم بشرع نبينا ، فكيف طريق حكمه به أبمذهب من المذاهب الأربعة المتقررة أو باجتهاد منه ؟ وإذا قلتم بمذهب من المذاهب الأربعة فبأي [ ص: 188 ] مذهب هو ؟ وإذا قلتم بالاجتهاد فبأي طريق تصل إليه الأدلة التي يستنبط منها الأحكام ، أبالنقل الذي هو من خصائص هذه الأمة أو بالوحي ؟ وإذا قلتم بالنقل فكيف طريق معرفته صحيح السنة من سقيمها أبحكم الحفاظ عليه أو بطريق آخر ؟ وإذا قلتم بالوحي فأي وحي هو ؟ أوحي إلهام أو بتنزيل ملك ، فإذا كان بالثاني فأي ملك وكيف حكمه في أموال بيت المال وأراضيه وما صدر فيها من الأوقاف ؟ أيقر ذلك على ما هو الآن أو يحكم فيه بغير ذلك ؟ أن
وأقول : قد ورد علي هذا السؤال من مدة تقارب شهرين ، وذلك يوم الجمعة رابع عشر ربيع الأول من هذه السنة جاءني رجل من أهل العلم ممن أخذ العلم عن والدي فسألني عن أشياء من جملتها هذا السؤال ، وأجبته عنه بجواب مختصر ، ومن جملة ما سألني عنه في ذلك المجلس قصة استحياء الملائكة من عثمان وأخرجت له في ذلك حديثين غريبين خرجتهما من تاريخ ابن عساكر وأوردتهما في كتاب تاريخ الخلفاء في ترجمة رضي الله عنه ، وها أنا ذاكر في هذه الأوراق جواب هذا السؤال على طريق البسط ذاكرا في كل كلمة أوردها مستندي فيها من الأحاديث والآثار وكلام العلماء ، فقول السائل بماذا يحكم في هذه الأمة بشرع نبينا أو بشرعه ؟ جوابه : أنه يحكم بشرع نبينا لا بشرعه ، نص على ذلك العلماء ووردت به الأحاديث وانعقد عليه الإجماع ، فمن جملة نصوص العلماء في ذلك قول عثمان بن عفان الخطابي في معالم السنن عند ذكر حديث أن عيسى يقتل الخنزير : فيه دليل على وجوب وبيان أن أعيانها نجسة ; وذلك لأن قتل الخنازير عيسى عليه السلام إنما يقتل الخنزير على حكم شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ; لأن نزوله إنما يكون في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية ، ومن ذلك قول النووي في شرح : ليس المراد بنزول مسلم عيسى أنه ينزل بشرع ينسخ شرعنا ولا في الأحاديث شيء من هذا ، بل صحت الأحاديث بأنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس .
ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما أخرجه أحمد ، ، والبزار من حديث والطبراني سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى ملته فيقتل الدجال ثم وإنما هو قيام الساعة ، وأخرج ينزل في الكبير ، الطبراني في البعث بسند جيد عن والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن مغفل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد وعلى ملته إماما مهديا وحكما عدلا فيقتل الدجال . [ ص: 189 ] وأخرج يلبث الدجال فيكم ما شاء الله ثم ينزل في صحيحه عن ابن حبان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبي هريرة ينزل عيسى ابن مريم فيؤمهم فإذا رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده قتل الله الدجال وأظهر المؤمنين .
ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن عيسى يقول في صلاته يومئذ سمع الله لمن حمده ، وهذا الذكر في الاعتدال من خواص صلاة هذه الأمة كما ورد في حديث ذكرته في كتاب المعجزات والخصائص ، وأخرج ابن عساكر عن قال : " أبي هريرة يهبط المسيح ابن مريم فيصلي الصلوات ويجمع الجمع " ، فهذا صريح في أنه ينزل بشرعنا ; لأن مجموع الصلوات الخمس وصلاة الجمعة لم يكونا في غير هذه الملة ، وأخرج ابن عساكر من حديث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمرو بن العاص كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها .
وأخرج ابن عساكر أيضا من حديث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها ؟ وقول السائل : وإذا قلتم : إنه يحكم بشرع نبينا فكيف طريق حكمه به أبمذهب من المذاهب الأربعة المقررة أو باجتهاد منه ؟ هذا السؤال عجب من سائله وأشد عجبا منه قوله فيه : بمذهب من المذاهب الأربعة ، فهل خطر ببال السائل أن المذاهب في هذه الملة الشريفة منحصرة في أربعة والمجتهدون من الأمة لا يحصون كثرة ، وكل له مذهب من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهلم جرا ، وقد كان في السنين الخوالي نحو عشرة مذاهب مقلدة أربابها مدونة كتبها وهي : الأربعة المشهورة ، ومذهب ، ومذهب سفيان الثوري ، ومذهب الأوزاعي ، ومذهب الليث بن سعد إسحاق بن راهويه ، ومذهب ، ومذهب ابن جرير داوود ، وكان لكل من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويقضون ، وإنما انقرضوا بعد الخمسمائة لموت العلماء وقصور الهمم ، فالمذاهب كثيرة ، فلأي شيء خصص السائل المذاهب الأربعة ؟ ثم كيف يظن بنبي أنه يقلد مذهبا من المذاهب ، والعلماء يقولون : إن المجتهد لا يقلد مجتهدا ، فإذا كان المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد فكيف يظن بالنبي أنه يقلد ؟ فإن قلت : فتعين حينئذ القول بأنه يحكم بالاجتهاد ، قلت : لا لم يتعين ذلك ، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يحكم بما أوحي إليه في القرآن ولا يسمى ذلك اجتهادا ، كما لا يسمى تقليدا ، والدليل على ذلك أن العلماء حكوا خلافا في جواز ، فلو كان حكمه بما يفهمه من القرآن يسمى اجتهادا لم تتجه حكاية الخلاف . الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 190 ] فإن قلت : بين لنا طريق معرفة عيسى بأحكام هذه الشريعة ، قلت : يمكن أن يقال في ذلك ثلاثة طرق :
الطريق الأول : أن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد كانوا يعلمون في زمانهم بجميع شرائع من قبلهم ومن بعدهم بالوحي من الله تعالى على لسان جبريل ، وبالتنبيه على بعض ذلك في الكتاب الذي أنزل عليهم ، والدليل على ذلك أنه ورد في الأحاديث والآثار عيسى عليه السلام بشر أمته بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم بعده وأخبرهم بجملة من شريعته يأتي بها تخالف شريعة أن عيسى ، وكذلك وقع لموسى وداود عليهما السلام ، من ذلك ما أخرجه في دلائل النبوة عن البيهقي قال : إن الله لما قرب وهب بن منبه موسى نجيا قال : رب إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ، قال : رب إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون كتبهم نظرا ولا يحفظونها فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ، قال : رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها نارا فأكلتها ، فإن لم تقبل لم تأكلها النار فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ، قال : رب إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، وإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد .
فهذه أحكام في شرعنا مخالفة لشرع من قبلنا بينها الله تعالى لنبيه موسى فعلمها بالوحي لا بالاجتهاد ولا بالتقليد ، وأخرج في دلائل النبوة أيضا عن البيهقي قال : إن الله أوحى في الزبور : يا وهب بن منبه داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا نبيا لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا ، وقد غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء ، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم ، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على [ ص: 191 ] الأمم كلهم ، أعطيتهم خصالا لم أعطها غيرهم من الأمم ، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه إذا استغفروني منه غفرته ، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم ، ولهم عندي أضعاف مضاعفة ، وأعطيتهم على المصائب والبلايا إذا صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم .
وأخرج في مسنده عن الدارمي أنه سأل ابن عباس كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ؟ قال كعب : نجده محمد بن عبد الله مولده بمكة ويهاجر إلى طابة ويكون ملكه بالشام ، وليس بفاحش ولا بسخاب في الأسواق ، ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، أمته الحمادون يحمدون الله في كل سراء ، ويكبرون الله على كل نجد ، يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم ، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم ، ودويهم في مساجدهم كدوي النحل يسمع مناديهم في جو السماء .
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة وغيره عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود مكة ومهاجره إلى طيبة ليس بفظ ولا غليظ يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافئ بالسيئة ، أمته الحمادون يأتزرون على أنصافهم ويوضئون أطرافهم ، أناجيلهم في صدورهم ، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال ، قربانهم الذي يتقربون به إلي دماؤهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار ، وأخرج صفتي في الإنجيل أحمد المتوكل مولده أبو نعيم في دلائل النبوة عن كعب الأحبار قال : صفة هذه الأمة في كتاب الله المنزل خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال ، هم الحمادون رعاة الشمس ، المحكمون ، إذا أراد أحدهم أمرا قال أفعله إن شاء الله ، وإذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله ، وإذا هبط واديا حمد الله ، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا ، يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غر محجلون من آثار الوضوء .
فهذه جملة من أحكام شريعتنا مخالفة لشرع من قبلنا ، بينها الله لأنبيائه فيما أنزله عليهم من الكتب ، وقد وردت الأحاديث والآثار ببيان أكثر من ذلك وتركتها خوف الإطالة ، ووردت الآثار أيضا بأن الله بين لأنبيائه في كتبهم جميع ما هو واقع في هذه [ ص: 192 ] الأمة من أحداث وفتن وأخبار خلفائها وملوكها ، من ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن قال : مكتوب في الكتاب الأول : مثل الربيع بن أنس مثل القطر أينما يقع نفع ، وأخرج أبي بكر الصديق أبو نعيم في الحلية عن أنه قال عمر بن الخطاب : كيف تجد نعتي في التوراة ؟ قال : خليفة قرن من حديد أمير شديد لا يخاف في الله لومة لائم ثم يكون من بعدك خليفة تقتله أمة ظالمين له ثم يقع البلاء بعده . لكعب الأحبار