الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            الوجه الرابع : قوله : كانوا يستحبون ، من باب قول التابعي كانوا يفعلون ، وفيه قولان لأهل الحديث والأصول : أحدهما أنه أيضا من باب المرفوع ، وأن معناه كان الناس يفعلون ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم به ويقر عليه .

            والثاني أنه من باب العزو إلى الصحابة دون انتهائه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلف على هذا هل هو إخبار عن جميع الصحابة ، فيكون نقلا للإجماع أو عن بعضهم ؟ على قولين ، أصحهما في " شرح مسلم " للنووي .

            الثاني : قال شمس الدين البرشنسي في شرح ألفيته المسماة ب " المورد الأصفى في علم الحديث " : قول التابعي كانوا يفعلون يدل على فعل البعض ، وقيل : يدل على فعل جميع الأمة أو البعض وسكوت الباقين ، أو فعلوا كلهم على وجه ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره ، انتهى .

            وقال الرافعي في " شرح المسند " : مثل هذا اللفظ يراد به أنه كان مشهورا في ذلك العهد من غير نكير ، فقول طاوس : " فكانوا يستحبون " إن حمل على الرفع - كما هو القول الأول - كان ذلك من تتمة الحديث المرسل ، ويكون الحديث اشتمل على أمرين ، أحدهما أصل اعتقادي ، وهو فتنة الموتى سبعة أيام ، والثاني حكم شرعي فرعي ، وهو استحباب التصدق والإطعام عليهم مدة تلك الأيام السبعة ، كما استحب سؤال التثبيت بعد الدفن ساعة ، ويكون مجموع الأمرين مرسل الإسناد ؛ لإطلاق التابعي له وعدم تسميته الصحابي الذي بلغه ذلك ، فيكون مقبولا عند من يقبل المرسل مطلقا ، وعند من يقبله بشرط الاعتضاد لمجيئه عن مجاهد وعن عبيد بن عمير ، وحينئذ فلا خلاف بين الأئمة في الاحتجاج بهذا المرسل ، وإن حملنا قوله : فكانوا يستحبون على الإخبار عن جميع الصحابة ، وأنه نقل للإجماع كما هو القول الثاني ، فهو متصل ؛ لأن طاوسا أدرك كثيرا من الصحابة ، فأخبر عنهم بالمشاهدة ، وأخبر عن بقية من لم يدركه منهم بالبلاغ عنهم من الصحابة الذين أدركهم ، وإن حملناه على الإخبار عن بعض الصحابة فقط كما هو القول الثالث - وهو الأصح - كان متصلا عن ذلك البعض الذين أدركهم ، وحينئذ فالحديث مشتمل على أمرين كما ذكرناه ، فأما الثاني فهو متصل كما هو الظاهر ، وأما الأول فإما مرسل على ما تقدم تقريره ؛ لأنه قول لا يصدر إلا عن صاحب الوحي ، وقد أطلقه تابعي [ ص: 223 ] فيكون مرسلا لحذف الصحابي المبلغ له من السند ، وعلى هذا فيكون الأمر الثاني المنقول عن الصحابة أو عن بعضهم عاضدا لذلك المرسل ؛ لأن من وجوه اعتضاد المرسل عندنا أن يوافقه فعل صحابي ، فيكون هذا عاضدا ثالثا بعد العاضدين السابقين وهما قول مجاهد وقول عبيد بن عمير ، ويكون الحديث مشتملا على جملة مرفوعة مرسلة ، وجملة موقوفة متصلة عاضدة لتلك الجملة المرسلة ، وإنما أوردهما طاوس كذلك ؛ لأن قصده توجيه الحكم الشرعي ، وهو استحباب الإطعام عن الموتى مدة سبعة أيام ، فذكر أن سببه ورود فتنتهم في تلك الأيام ؛ ولهذا فرعه عليه بالفاء حيث قال : فكانوا يستحبون أن يطعم عنه تلك الأيام ، ونظير هذا الأثر في ذلك ما أخرجه الترمذي ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ، عن الزهري قال : إنما كره المنديل بعد الوضوء لأن ماء الوضوء يوزن ، أراد الزهري - وهو من التابعين - تعليل الحكم الشرعي - وهو ترك التنشيف بعد الوضوء - بسبب لا يؤخذ إلا من الأحاديث المرفوعة ، لأن وزن ماء الوضوء لا يدرك إلا بتوقيف ؛ لأنه من أحوال القيامة ، فلما أورد الحديث مورد التعليل أورده مرسلا محذوفا منه الصحابي .

            وقد قال النووي في آخر " شرح مسلم " قد عملت الصحابة فمن بعدهم بهذا ، فيفتي الإنسان منهم بمعنى الحديث عند الحاجة إلى الفتيا دون الرواية ولا يرفعه ، فإذا كان في وقت آخر رفعه .

            وقال الرافعي في " شرح المسند " : قد يحتج المحتج ويفتي المفتي بلفظ الحديث ولا يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أثر طاوس أمرا ثانيا ، وهو اتصال الجملة الأولى أيضا ؛ لأن الإخبار عن الصحابة بأنهم كانوا يستحبون الإطعام عن الموتى تلك الأيام السبعة صريح في أن ذلك كان معلوما عندهم ، وأنهم كانوا يفعلون ذلك لقصد التثبيت عند الفتنة في تلك الأيام ، وإن كان معلوما عند الصحابة كان ناشئا عن التوقيف كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون الحديث من باب المرفوع المتصل لا المرسل ؛ لأن الإرسال قد زال ، وتبين الاتصال بنقل طاوس عن الصحابة ؛ ولهذا قلت في أرجوزتي :


            إسناده قد صح وهو مرسل وقد يرى من جهة يتصل

            لأنه وإن كان مرسلا في الصورة الظاهرة إلا أنه عند التأمل يتبين اتصاله من جهة ما نقله طاوس عن الصحابة من استحباب الإطعام في تلك الأيام المستلزم لكون السبب في ذلك وهو الفتنة فيها كان معلوما عندهم ، وتبين بذلك السر في إرسال طاوس الحديث وعدم تسمية الصحابي المبلغ له ؛ لكونه كان مشهورا إذ ذاك ، والمبلغون له فيهم كثرة [ ص: 224 ] فاستغنى عن تسمية أحد منهم ؛ ولأن في استيعاب ذكر من بلغه طولا ، وإن سمى البعض أوهم الاقتصار عليه أنه لم يبلغه إلا ممن سمى فقط ، وخصوصا على القول بأن هذه الصيغة تحمل على الإخبار عن جميع الأمة ، فإن ذلك يكون أبلغ في عدم تسمية أحد من المبلغين ، وعلى كل تقدير فالحديث مقبول ، ويحتج به لأن الأمر دائر بين أن يكون متصلا وبين أن يكون مرسلا عضده مرسلان آخران ، وفعل بعض الصحابة أو كلهم أو كل الأمة في ذلك العصر ، فهذا تقرير الكلام على قبول الحديث والاحتجاج به من جهة في الحديث والأصول ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية