فصل : قد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة بل المتواترة أنه صلى الله عليه وسلم منع من ، ولم يأذن في ذلك لأحد ولا لعمه فتح باب شارع إلى مسجد العباس ولا لأبي بكر إلا لعلي لمكان ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، ومن فتح خوخة صغيرة أو طاقة أو كوة ، ولم يأذن في ذلك لأحد ولا لعمر إلا لأبي بكر خاصة لمكان الخلافة ، ولكونه أفضل الناس يدا عنده ، كما أشار إلى التعليل به في الأحاديث المبدأ بها ، وهذه خصيصة لا يشاركه فيها غيره ، ولا يصح قياس أحد عليه إلى يوم القيامة ، فإن عمر استأذن في كوة فلم يؤذن له ، فمن ذا الذي يقاس عليه ؟ وقد منع عمر ، واستأذن العباس في فتح باب صغير بقدر ما يخرج منه وحده ، فلم يؤذن له وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذا الذي يباح له ذلك وقد منع منه عمر والعباس ؟ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسند ذلك إلى أمر الله به ، وأنه لم يسد ما سد ولم يفتح ما فتح إلا بأمره تعالى ، ثم إن ذلك كان في مرض الوفاة ، وفي آخر مجلس جلسه على المنبر ، وكان ذلك من جملة ما عهد به إلى أمته ومات عليه ولم ينسخه شيء ، وتقلد ذلك حملة الشريعة من أمته ، فوجب على من علمه أن يبينه عند الحاجة إليه ولا يكتمه ، فإن توهم متوهم أو زعم زاعم أن الأمر في ذلك منوط برأي الإمام زد عليه بأن هذا حكم من الأحكام نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على منعه ، فلا رأي لأحد في إباحته ، بل لو وقف رجل من آحاد الناس مسجدا وشرط فيه شيئا اتبع شرطه ، فكيف بمسجد وقفه النبي صلى الله عليه وسلم ونص فيه على المنع من أمر وأسنده إلى الوحي ، وجعله من جملة عهده عند وفاته ، والرجوع إلى رأي الإمام إنما يكون في مساجد لا تعرض في شروط واقفيها لمنع ولا لغيره على ما في ذلك أيضا من توقف ونظر ، وإن خطر ببال أحد أن يقول : إن المسجد الشريف قد زالت معالمه وجدره ووسع زيادة على ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم فلا يجديه هذا شيئا فإن ، ولو اتسع وأزيلت جدره وأعيدت عادت على هذا الحكم من غير تغيير ، فإن الحكم المذكور منوط بالمسجد من حيث هو لا بذاك الجدار بعينه ، وقد بني في زمن حرمة المسجد وأحكامه [ ص: 21 ] الثابتة له باقية إلى يوم القيامة عمر ووسع في زمن عثمان وغيره في القرن الأول وبعده ، ولم يخرجوا عن هذا الحكم ، وإن قيل بجواز الفتح في الجدار الذي هو ملك الفاتح ، قلنا : إن كان مع إعادة حائط المسجد الشريف كما كانت بحيث يسد الباب والشبابيك التي في الجدار فلا يستطرق منه ، ولا يطلع منها فلا كلام ، وإن كان مع إزالة حائط المسجد وبقاء الاستطراق والاطلاع ، فمعاذ الله فإن هذه ذريعة وحيلة يتوصل بها إلى مخالفة الأمر الشريف ، وإذا منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر من فتح كوة ينظره منها حين يخرج إلى الصلاة ، فكيف يهدم الحائط جميعه ؟ بل أزيد على هذا وأقول لو أعيد حائط المسجد وبني خلفه جدار أطول منه وفتح في أعلاه كوة يطلع منها إلى المسجد فينبغي المنع من ذلك ; احتياطا للحديث ، وإن انضم إلى ذلك أن الشبابيك تصير معدة لمن يجلس فيها مرتفعا ، والقبر الشريف تحته فهذا أشد وأشد ، والواجب على كل متحر الاحتياط لدينه حيث علم أن هذا الحكم منصوص عليه من صاحب الشرع ، وأنه لا رأي لأحد فيه بعد نصه ، وأن ينقض حكم الحاكم بما يخالف النص ترد ، والتوصل إلى خلافه بالحيل الفاسدة من باب قوله صلى الله عليه وسلم : وفتوى المفتي بما يعارض " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود : تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " .