يظنوا بي حلولا واتحادا وقلبي من سوى التوحيد خالي
فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول وقال من أبيات أخر :وعلمك أن هذا الأمر أمري هو المعنى المسمى باتحاد
وقال صاحب كتاب نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد : حدثني الشيخ كمال الدين المراغي عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه قال له مرة : الكفار إنما انتشروا في بلادكم لانتشار الفلسفة هناك ، وقلة اعتنائهم بالشريعة والكتاب والسنة ، قال : فقلت له : في بلادكم ما هو شر من هذا ، وهو قول الاتحادية ، فقال : هذا لا يقوله عاقل ، فإن قول هؤلاء كل أحد يعرف فساده ، قال : وحدثني الشيخ كمال الدين المذكور قال : اجتمعت بالشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي وفاوضته في هؤلاء الاتحادية ، فوجدته شديد الإنكار عليهم والنهي عن طريقهم ، وقال : أتكون الصنعة هي الصانع ؟ انتهى ، قلت : ولهذا كانت طريقة الشاذلي هي أحسن طرق التصوف ، وهي في المتأخرين نظير طريقة الجنيد في المتقدمين ، وقد قال الشيخ تاج الدين بن السبكي في كتاب جمع الجوامع : وإن طريق الشيخ الجنيد وصحبه طريق مقوم ، وكان والده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يلازم مجلس الشيخ تاج الدين بن عطاء الله يسمع كلامه ووعظه ، ونقل عنه في كتابه المسمى غيرة الإيمان [ ص: 163 ] الجلي فائدة حسنة في حديث : " " فقال : إنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له تجليات فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده فقال مخاطبا لهم : لا تسبوا أصحابي وارتضى لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه السبكي منه هذا التأويل وقال : إن الشيخ تاج الدين كان متكلم الصوفية في عصره على طريق الشاذلية ، انتهى .
قلت : وهو تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي ، والشيخ أبو العباس تلميذ الشاذلي ، وقد طالعت كلام هؤلاء السادة الثلاثة فلم أر فيه حرفا يحتاج إلى تأويل فضلا عن أن يكون منكرا صريحا ، وما أحسن قول سيدي علي بن وفا :
تمسك بحب الشاذلية تلق ما تروم وحقق ذا الرجاء وحصل
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم شموس هدى في أعين المتأمل
ثم ذكر في المذهب الثاني وهو القول بالوحدة المطلقة [ وقال : إنه غير الحلول والاتحاد ، وإنه أيضا خارج عن طريق العقل [ ص: 164 ] والشرع ، وإنه باطل وضلال ، وقد سقت بقية كلامه فيه في الكتاب الذي ألفته في ذم القول بالوحدة المطلقة ، فإنه به أجدر ، وذكر السيد الجرجاني في شرح المواقف نحو ذلك ، وقد سقت أيضا عبارته في الكتاب المشار إليه .
وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه شرح منازل السائرين : الدرجة الثالثة من درجات الفناء فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين ، وهو الفناء عن إرادة السوى ، شائما برق الفنا عن إرادة ما سواه ، سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه ، فانيا بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه ، فضلا عن إرادة غيره ، قد اتخذ مراده بمراد محبوبه أعني المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري ، فصار المرادان واحدا قال : وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا ، والاتحاد في العلم والخبر ، فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدا مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين ، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب ، وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب ، فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم ، قد فنوا بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه ، ومن تحقق بهذا الفناء لا يحب إلا في الله ، ولا يبغض إلا فيه ، ولا يوالي إلا فيه ، ولا يعادي إلا فيه ، ولا يعطي إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، فيكون دينه كله ظاهرا لله ، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل :
يعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعا ولو كان الحبيب المصافيا
وقال في موضع آخر : وإن كان مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوى لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني ، بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب تعالى هو عين مراد العبد ، وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح ، وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة ، قال : فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواحدين ، انتهى .
وقد تكرر كلام ابن القيم في هذا الكتاب في تضليل الاتحادية والقائلين بالوحدة المطلقة ، وقد سقت منه أشياء في كتابي الذي أشرت إليه فلينظر منه ، والله أعلم .