هي قسمان : ما يدل بطريق العموم ، وما يدل بطريق الخصوص ، فالذي يدل بطريق العموم قوله تعالى : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ ص: 170 ] . والعالمون شامل للملائكة كما هو شامل للإنس والجن ، وقد أجمع المفسرون على أن قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) شامل لهؤلاء الثلاثة فكذلك هذا ، والأصل بقاء اللفظ على عمومه حتى يدل الدليل على إخراج شيء منه ، ولم يدل هنا دليل على إخراج الملائكة ، ولا سبيل إلى وجوده لا من القرآن ، ولا من الحديث ، وقد نوزع من ادعى الإجماع في هذه الدعوى ، فمن أين تخصيصه بالإنس والجن فقط دون الملائكة ؟ وكذا قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فإنه أيضا شامل للملائكة .
وذكر صاحب الشفا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله علي في القرآن بقوله : ( ذي قوة عند ذي العرش مكين ) ، إلا أن هذا الحديث لم يوقف له على إسناد ، وأما ما يدل بالخصوص فقد استنبطت أدلة لم أسبق إليها : الدليل الأول : وهو أقواها قوله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ) -يعني الملائكة ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ثم قال : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) .
أخرج عن ابن أبي حاتم الضحاك في قوله : ( ومن يقل منهم ) قال : يعني من الملائكة ، وأخرج ابن المنذر عن في قوله : ( ابن جريج ومن يقل منهم إني إله من دونه ) قال : الملائكة ، وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، في دلائل النبوة عن والبيهقي قال : إن الله قال لأهل السماء : ( ابن عباس ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) . فهذه الآية إنذار للملائكة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الذي أنزل عليه وقد قال تعالى : ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) فثبت بذلك إرساله إليهم ، ولم أقف إلى الآن على إنذار وقع في القرآن للملائكة سوى هذه الآية ، والحكمة في ذلك واضحة ; لأن غالب المعاصي راجعة إلى البطن والفرج ، وذلك ممتنع [ ص: 171 ] عليهم من حيث الخلقة فاستغنى عن إنذارهم فيه ، ولما وقع من إبليس وكان منهم أو فيهم نظير هذه المعصية أنذروا فيها . نعم وقع في القرآن آية أخرى بسببهم لكنها من باب الإخبار لا الإنذار المحض وهي قوله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) أخرج ابن المنذر عن قال : لما نزلت : ( ابن جريج كل من عليها فان ) قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فلما نزلت : ( كل نفس ذائقة الموت ) قالت الملائكة : هلك كل نفس ، فلما نزلت : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) قالت الملائكة : هلك أهل السماء وأهل الأرض .
الدليل الثاني : ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عكرمة قال : صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد ، هذا يدل على أن الملائكة في السماء تصلي بصلاة أهل الأرض ، ويرشحه ما أخرجه مالك ، ، والشافعي وأحمد ، والأئمة الستة عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
وأخرج أبو يعلى في مسنده عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال الذين خلفه : آمين ، التقت من أهل السماء وأهل الأرض آمين غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه . إذا قال الإمام
وأخرج عن مسلم : جابر بن سمرة . أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقال : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف
وأخرج في سننه ، سعيد بن منصور في مصنفه عن وابن أبي شيبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي بن كعب . الصف الأول على مثل الملائكة
الدليل الثالث : ما أخرجه في كتاب العظمة من طريق أبو الشيخ ابن حيان الليث ، قال : حدثني خالد عن سعيد قال : بلغنا أن إسرافيل مؤذن أهل السماء يسمع تأذينه من في السماوات السبع ، ومن في الأرضين إلا الجن والإنس ثم يتقدم بهم عظيم الملائكة يصلي بهم ، قال : وبلغنا أن ميكائيل يؤم الملائكة في البيت المعمور ، هذا يدل على أن الملائكة يؤذنون آذاننا ويصلون صلاتنا .
[ ص: 172 ] الدليل الرابع : ما أخرجه عن سعيد بن منصور أنه دخل المسجد لصلاة الفجر فإذا قوم قد أسندوا ظهورهم إلى القبلة ، فقال : هكذا عن وجوه الملائكة ، ثم قال : لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتها فإن هذه الركعتين صلاة الملائكة ، وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال : كانوا يكرهون التساند إلى القبلة بعد ركعتي الفجر ، وأخرج إبراهيم النخعي أحمد في مسنده عن حابس بن سعد - وكانت له صحبة - : أنه دخل المسجد في السحر فرأى الناس يصلون في صفة المسجد فقال : إن الملائكة تصلي في السحر في مقدم المسجد ، دلت هذه الآثار على أن الملائكة تصلي في جماعتنا صلاة الفجر وتحضرها في مساجدنا ، ويرشحه ما أخرجه البخاري عن ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( أبو هريرة وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) . تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر يقول
وأخرج أحمد وصححه ، والترمذي والنسائي عن وابن ماجه أبي هريرة وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، وأخرج عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( عن ابن جرير أنه كان يحدث أن صلاة الفجر عندها يجتمع الحرسان من ملائكة الله ويقرأ هذه الآية . ابن مسعود
وأخرج عن في قوله : ( قتادة وقرآن الفجر ) قال : " صلاة الفجر " ، وفي قوله : ( كان مشهودا ) يقول : ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون تلك الصلاة ، وأخرج عن في قوله : ( إبراهيم النخعي وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : كانوا يقولون : تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ، فيشهدونها جميعا ثم يصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء .
الدليل الخامس : ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة في سننه عن والبيهقي موقوفا ، سلمان الفارسي من وجه آخر عن والبيهقي سلمان مرفوعا قال : " " . إذا كان الرجل في أرض فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان ، فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه
وأخرج عن سعيد بن منصور قال : " إذا أقام الرجل الصلاة وهو في فلاة من الأرض صلى خلفه ملكان ، فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة أمثال الجبال " . [ ص: 173 ] وأخرج سعيد بن المسيب عن سعيد بن منصور مكحول قال : من أقام الصلاة صلى معه ملكان فإن أذن وأقام صلى خلفه سبعون ملكا .
دلت هذه الآثار على أن الملائكة يصلون خلفنا صلاتنا ، وذلك دليل على أنهم مكلفون بشرعنا ، ويرشح ذلك فرعان نص عليهما أصحابنا : الأول ما ذكره السبكي في الحلبيات : أن الجماعة تحصل بالملائكة كما تحصل بالآدميين قال : وبعد أن قلت ذلك بحثا رأيته منقولا ، ففي فتاوى الحناطي من أصحابنا من صلى في فضاء من الأرض بأذان وإقامة وكان منفردا ، ثم حلف أنه صلى بالجماعة هل يحنث أو لا ؟ فأجاب بأنه يكون بارا في يمينه ولا كفارة عليه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أذن وأقام في فضاء من الأرض ، وصلى وحده صلت الملائكة خلفه صفوفا فإذا حلف على هذا المعنى لا يحنث ، قال السبكي : وينبني على ذلك أن من ترك الجماعة لغير عذر وقلنا بأنها فرض عين ، هل نقول يجب القضاء كمن صلى فاقد الطهورين ؟ فإن كان كذلك ; فصلاة الملائكة إن قلنا بأنها كصلاة الآدميين ، وأنها تصير بها جماعة ، فقد يقال أنها تكفي لسقوط القضاء .
الفرع الثاني : قول الأصحاب : أنه يستحب للمصلي إذا سلم أن ينوي السلام على من على يمينه ويساره من ملائكة وإنس وجن .
الدليل السادس : ما أخرجه عن البزار علي قال : جبريل بدابة يقال لها البراق ، فذكر الحديث إلى أن قال : خرج ملك من الحجاب ، فقال الملك : الله أكبر الله أكبر - إلى أن قال : فقال : أشهد أن محمدا رسول الله - إلى أن قال : ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه فأم أهل السماء ، فيومئذ أكمل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم الشرف على أهل السماوات والأرض . لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن محمد بن الحنفية مثله ، وفيه . فقال الملك : حي على الصلاة ، فقال الله : صدق عبدي دعا إلى فريضتي - إلى أن قال : ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم فتقدم ، فأم أهل السماء ، فتم له شرفه على سائر الخلق
في هذا دلالة على إرساله إلى الملائكة من أربعة أوجه :
الأول : شهادة الملك له بالرسالة مطلقا ، حيث قال : أشهد أن محمدا رسول الله .
الثاني : قول الله في دعاء الملك إلى الصلاة : دعا إلى فريضتي ، فإن ذلك يدل على أنها فرضت على أهل السماء كما فرضت على أهل الأرض .
الثالث : إمامته لأهل السماوات وصلاة الملائكة بأسرهم خلفه ، وذلك دليل على اتباعهم [ ص: 174 ] له وكونهم من جملة أتباعه .
الرابع : قوله : فيومئذ أكمل الله لمحمد الشرف على أهل السماوات ، وإكمال الشرف له ببعثه إليهم وكونهم أتباعا له ، وكأنه في هذا الوقت أرسل إليهم ولم يكن أرسل إليهم قبل ذلك .
ويرشح ذلك أمر خامس وهو القرآن بين أهل السماء وأهل الأرض في الذكر ، فكما كان شرفه على أهل الأرض بإرساله إليهم أجمعين ، فكذلك شرفه على أهل السماوات بإرساله إليهم أجمعين . وكذا قوله في الرواية الأخرى : فتم له شرفه على سائر الخلق ، وسائر في اللغة بمعنى : الباقي ، فكأن معنى الحديث : أنه كان له الشرف على الثقلين بإرساله إليهم ولم يكن أرسل إلى الملائكة ، فلما أرسل إليهم تم له الشرف على من بقي من الخلق وهم الملائكة .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أسري بي إلى السماء أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم ، فقدمني فصليت بالملائكة .
الدليل السابع : ما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة نزل آدم بالهند واستوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين ، فهذه شهادة من جبريل برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمها لآدم ، فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى الأنبياء والملائكة معا .
الدليل الثامن : ما ورد من حديث عمر بن الخطاب وأنس ، وجابر ، ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبي الدرداء ، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه وأبي هريرة مكتوب على العرش وعلى كل سماء وعلى باب الجنة وعلى أوراق شجر الجنة : لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كتب ذلك في الملكوت إلا على دون أسماء سائر الأنبياء إلا لتشهد به الملائكة ، وكونه مرسلا إليهم . وقد أخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أن آدم أوصى ابنه شيث فقال : كلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش وأنا بين الروح والطين ، ثم إني طرفت فلم أر في السماء موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه ، ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوبا عليه ، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين ، وعلى ورق قصب آجام الجنة ، وعلى ورق شجرة طوبى ، وعلى ورق سدرة المنتهى ، وعلى أطراف الحجب ، وبين أعين الملائكة ، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها ، فهذا يدل على أنه نبي الملائكة ، حيث لم تغفل عن ذكره ، واستفدنا من هذا الأثر فائدة لطيفة وهو [ ص: 175 ] أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الحور العين والولدان ، ووضح بذلك أنه لم يدخل الجنة أحد ولم يستقر بها ممن خلق فيها إلا من آمن به صلى الله عليه وسلم ، ولعل من جملة فوائد الإسراء ودخوله إلى الجنة تبليغ جميع من في السماوات من الملائكة ، ومن في الجنات من الحور والولدان ، ومن في البرزخ من الأنبياء رسالته ليؤمنوا به ويصدقوه مشافهة في زمنه بعد أن كانوا مؤمنين به قبل وجوده .
الدليل التاسع : قد صرح السبكي في تأليف له بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأنبياء آدم فمن بعده ، وأنه صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : وآدم بين الروح والجسد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : كنت نبيا ، قال : ولهذا أخذ الله المواثيق له على الأنبياء كما قال الله تعالى : ( بعثت إلى الناس كافة وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) قلت : أخرج عن ابن أبي حاتم السدي في الآية قال : لم يبعث نبي قط من لدن نوح إلا أخذ الله ميثاقه ليؤمنن بمحمد . وأخرج ابن عساكر عن قال : لم يزل الله يتقدم في النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس آدم فمن بعده ، ولم تزل الأمم تتباشر به وتستفتح به .
وأخرج الحاكم عن قال : أوحى الله إلى ابن عباس عيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار . قال السبكي : عرفنا بالخبر الصحيح حصول الكمال من قبل خلق آدم لنبينا صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت ثم أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم وأنه نبيهم ورسولهم ، وفي أخذ المواثيق وهي في معنى الاستخلاف ، ولذلك دخلت لام القسم في لتؤمنن به ولتنصرنه .
لطيفة أخرى : وهي كأنها أيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء ، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه ، فإذا عرفت ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء ، ولهذا ظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه ، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم . ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته ، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم ، فنبوته [ ص: 176 ] عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له ، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه فتأخر ذلك لأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافه بما يقتضيه ، وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل ، فهاهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة ، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه ، فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك . ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته ويتعلق به ما فيها من أمر ونهي كما يتعلق بسائر الأمة وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء ، وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه أو في زمان موسى ، وإبراهيم ، ونوح ، وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم ، فنبوتهم ورسالته أعم وأشمل وأعظم ومتفق مع شرائعهم في الأصول ; لأنها لا تختلف ، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع ، إما على سبيل التخصيص ، وإما على سبيل النسخ ، أو لا نسخ ولا تخصيص ، بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم ، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة ، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات ، انتهى كلام السبكي .
قلت : ويدل لكونه مرسلا إلى الأنبياء ما ورد من حديث ، عبادة بن الصامت مرفوعا " وجابر بن عبد الله سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله " . فهذا فيه إشارة إلى أنهم من أتباعه ، وهذا التقرير الذي قرره كان نقش خاتم السبكي قد أشار إليه الشرف وقد مات قبل مولد البوصيري السبكي بقوله في البردة :
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه شمس فضل هم كواكبها
يظهرون أنوارها للناس في الظلم
الدليل العاشر : أنه صلى الله عليه وسلم أعطي من الملائكة أمورا لم يعطها أحد من الأنبياء ، منها : قتالهم معه ، ومنها مشيهم خلف ظهره إذا مشى ، وذلك يدل على أنهم من جملة أتباعه وداخلون في شرعه ، ومن كلام الرافعي في خطبة المحرر : وأخدمته الملائك ، وقال في قوله تعالى : ( ابن [ ص: 177 ] عباس له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، والمعقبات : الملائكة يحفظون محمدا صلى الله عليه وسلم ، أخرجه ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، ومنها ما ورد في الحديث : جبريل وميكائيل ، واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر والوزير من أتباع الملك ضرورة ، إن الله أيدني بأربعة وزراء ، اثنين من أهل السماء فجبريل وميكائيل رؤوس أهل ملته من الملائكة ، كما أن أبا بكر وعمر رؤوس أهل ملته من بني آدم ، ومنها أنه لما مات صلى الله عليه وسلم صلى عليه الملائكة بأسرهم لم يتخلف منهم أحد ولم يقع ذلك لغيره من الأنبياء ، ومنها أن الملائكة يسألون الموتى في قبورهم عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء سواه ، ومنها أن الملائكة تحضر أمته إذا قاتلت العدو في سبيل الله لنصرة دينه وهذه خصيصة مستمرة إلى يوم القيامة ، ومنها أن جبريل عليه السلام يحضر من مات من أمته ليطرد عنه الشيطان في تلك الحالة ، ومنها أن الملائكة تنزل في كل سنة ليلة القدر على أمته وتسلم عليهم ، ومنها أنها أعطيت قراءة سورة الفاتحة من كتابه ولم تعط قراءة شيء من سائر الكتب وهي حريصة على سماع بقية القرآن من الإنس دون سائر الكتب ، ومنها أنه نزل إليه صلى الله عليه وسلم في حياته من الملائكة ما لم ينزل إلى الأرض منذ خلق كإسرافيل ، ومنها أن ملك الموت استأذن عليه ولم يستأذن على نبي قبله ، ومنها أنه وكل بقبره الشريف ملك يبلغه سلام من يصلي عليه ، ومنها أنه ينزل على قبره الشريف سبعون ألف ملك يضربونه بأجنحتهم ويحفونه ويستغفرون له ويصلون عليه كل يوم إلى أن يمسوا فإذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك كذلك حتى يصبحوا إلى أن تقوم الساعة ، فإذا كان يوم القيامة خرج صلى الله عليه وسلم في سبعين ألف ملك - أخرجه ابن المبارك في الزهد عن كعب الأحبار .