وأما السؤال الثالث والثلاثون : فقد وردت أحاديث تقتضي استحباب ، وأحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر ، والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص . قال سيدي الإسرار به يوسف العجمي رضي الله عنه : قد اعترض بعض الفضلاء على [ ص: 376 ] الجهر بالذكر مستدلا بقوله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ) الآية ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " " . والجواب أن الله تعالى خاطب عامة عباده بمثل قوله : ( خير الذكر ما خفي أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) وخاطب الخاص بمثل قوله : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) وخاطب سيد أهل الحضرة محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفه بربه ونفسه وأراه كيف مد الظل بمثل قوله : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ) وقوله : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) فمن لا يعرف ربه ولا نفسه ولا أراه كيف مد الظل فكيف يذكر ربه في نفسه ؟ أو كيف يرى مد الظل ؟ بل هم المخاطبون بمثل قوله تعالى : ( اذكروا الله ذكرا كثيرا ) وأما فهو ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت ، وهو أيضا خاص به صلى الله عليه وسلم وبمن له به أسوة حسنة ، وعن الذكر الخفي جابر رضي الله عنه " " . وقال صلى الله عليه وسلم : " أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل : لو أن هذا خفض من صوته ، فقال صلى الله عليه وسلم : دعه فإنه أواه " . وروي " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قيل : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر جبريل عليه السلام ، فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة " . وعن أنه صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه قال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه أتاني أبي قتادة رضي الله عنه ، لأبي بكر : مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك ، فقال : إني أسمعت من ناجيت ، فقال : ارفع صوتك قليلا ، وقال لعمر : مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع من صوتك ، فقال : إني أوقظ الوسنان ، وأطرد الشيطان ، قال : اخفض قليلا . وروي أن الناس كانوا يذكرون الله تعالى عند غروب الشمس يرفعون أصواتهم بالذكر ، فإذا خفيت أرسل إليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه أن ثوروا الذكر- أي ارفعوا أصواتكم . والجمع بين الآية والحديث السابقين اللذين استدل بهما وبين هذه الأحاديث والأثر-أن عمر بن الخطاب ، وأما الذاكرين إذا كانوا مجتمعين على الذكر ، فالأولى في حقهم رفع الصوت بالذكر والقوة ، وإن كان من العام فالجهر في حقه أفضل . وقد شبه إذا كان الذاكر وحده ، فإن كان من الخاص فالإخفاء في حقه أولى رحمه الله ذكر شخص واحد وذكر جماعة مجتمعين بمؤذن واحد وجماعة مؤذنين ، فكما أن [ ص: 377 ] أصوات الجماعة تقطع جرم الهواء أكثر من صوت شخص واحد ، فكذا ذكر جماعة على قلب واحد أكثر تأثيرا في رفع الحجب من ذكر شخص واحد ، ومن حيث الثواب فلكل واحد ثواب ذكر نفسه وثواب سماع ذكر رفقائه ، وأما قوله : إنه أكثر تأثيرا في رفع الحجب- فلأن الله تعالى شبه القلوب بالحجارة في قوله : ( الغزالي ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ومعلوم أن الحجر لا ينكسر إلا بقوة ، فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد أشد من قوة ذكر شخص واحد ; ولهذا قال الشيخ نجم الدين البكري رحمة الله عليه : إن القوة في الذكر شرط ، واستدل بهذه الآية -انتهى .
وأما السؤال الرابع والثلاثون : فجوابه أن بدعة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا إحداث الألحان في الذكر أبي بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، ولا فعلها أحد من الصحابة ، ولا التابعين ، ولا السلف الصالحين ، فإن انضم إلى ذلك تمطيط الأحرف ، والإشباع في غير موضعه ، والاختلاس في غير موضعه ، والترقيص ، والتطريب ، وتعويج الحنك والرأس- فهذا مغن لا ذاكر ، وأخشى عليه أن يجاب من قبل الله باللعنة ; فإن سر الذاكر إحضار عظمة الله وهيبته في القلب بخشوع وخضوع ، وإعراض عما سواه ، والملحن في شغل شاغل عن ذلك ، وليعرض الإنسان على نفسه أن لو وقف شخص تحت بيته ونادى : آه يا سيدي فلان ، وكرر ذلك بهذا التلحين والترقيص ، أكان يرضيه ذلك ، أو يعده قليل الأدب ؟ فالتأدب مع الله أولى وأحق .
وأما السؤال الخامس والثلاثون : فأقول : مقتضى الأدلة ; لأمور : منها أنه يربى به الطفل ، ولا يقوم العسل ولا غيره مقامه في ذلك ، ومنها أنه يجزئ عن الطعام والشراب وليس العسل ولا غيره بهذه المثابة . روى تفضيل اللبن على العسل أبو داود ، وحسنه ، والترمذي ، عن وابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابن عباس " . ومنها أنه لا يشرق به أحد ، وليس العسل ولا غيره كذلك ، روى من سقاه الله لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن ابن مردويه في تفسيره ، عن أبي لبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما شرب أحد لبنا فشرق ; إن الله يقول : ( لبنا خالصا سائغا للشاربين ) ومنها - رواه الشيخان وغيرهما ، فاختياره اللبن على العسل ظاهر في تفضيله عليه ، ومن الصريح في ذلك أيضا ما رواه أنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أتي بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، وإناء من عسل ، فاختار اللبن ، فقيل : هذه الفطرة أنت عليها وأمتك عن [ ص: 378 ] ابن أبي عاصم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابن عباس " . والحديث أصله في السنن الأربعة ، فقوله في الأول : وأطعمنا خيرا منه ، وفي اللبن : وزدنا منه- يعطي أنه لا شيء خير من اللبن . من أطعمه الله طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، ومن سقاه الله لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، وإني لا أعلم شيئا يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن
وأما السؤال السادس والثلاثون : فقد كنت سئلت عنه قديما ، وأجبت بأنه لم يرد حديث ولا أثر في التفضيل بينهما ، والتفضيل يحتاج إلى توقيف . وذكر عن حافظ العصر أبي الفضل بن حجر أنه سئل عن ذلك ، فأجاب بأن زمزم أفضل مياه الدنيا ، ماء . وهذا الجواب كما ترى ليس فيه نص على تفضيل أحدهما على الآخر . وقد يقال لمن خطر بباله تفضيل ماء وماء الكوثر أفضل مياه الآخرة زمزم أنه يشهد له أنه صلى الله عليه وسلم غسل صدره به لما شقه جبريل ، ولكن الذي يظهر تفضيل الكوثر ; لأنه عطية الله للنبي صلى الله عليه وسلم ، وزمزم عطية الله لإسماعيل ; ولأن الكوثر مصرح بذكره في القرآن في معرض الامتنان مسندا إلى نون العظمة ، ولم يقع في زمزم مثل ذلك .
وأما السؤال السابع والثلاثون : ففي " كشف الأسرار " قال بعضهم : هما سواء لا يفضل أحدهما على الآخر . ويقال : ما دام الرجل صحيحا فالخوف أفضل ، وما دام مريضا فالرجاء أفضل ، ويقال : الخوف للعاصي أفضل ، والرجاء للمطيع أفضل ، ويقال : ، الخوف قبل الذنب أفضل ; لأربعة أشياء ; أحدها : إلى فضله والخوف من عدله ، والفضل أكرم من العدل . والثاني : الرجاء إلى الوعد ، والوعد من بحر الرحمة ، والخوف من الوعيد ، والوعيد من بحر الغضب ، ورحمته سبقت غضبه . الثالث : الرجاء بالطاعة والخوف من المعصية ، ومن الطاعة ما يعلو على المعاصي كالتوحيد . والرابع : الرجاء بالرحمة والخوف من الذنوب ، والذنوب لها نهاية ، والرحمة لا نهاية لها ، ويقال : الخوف أفضل منه ; لأنه وعد بالخوف جنتين ، ولم يعد بالرجاء إلا جنة واحدة ، وأيضا الخوف يمنع من الذنوب ، وترك الذنوب أفضل من فعل الخيرات . ويقال : من عبد الله بالخوف فهو حروري ، ومن عبد الله بالرجاء فهو مرجئ ، ومن عبد الله بالحب فهو زنديق ، ومن عبد الله بالثلاثة فهو مستقيم . والرجاء بعد الذنب أفضل
وأما السؤال الثامن والثلاثون : ففي " كشف الأسرار " قال النيسابوري : الليل أفضل ; لوجوه ; أحدها : أن الليل راحة ، والراحة من الجنة ، والنهار تعب ، والتعب من النار ، وأيضا فالليل حظ الفراش ، والنهار حظ اللباس ; ولأن الله تعالى سمى ليلة القدر خير من ألف شهر ، وليس في الأيام مثلها . وقيل : النهار أفضل ; لأنه نور ، وأيضا لا يكون في الجنة ليل ، وأيضا النهار للمعاد والمعاش .
[ ص: 379 ] قلت : قد وقفت على تأليف في التفضيل بين الليل والنهار صاحب " المجمل " ، فذكر فيه وجوها في تفضيل هذا ووجوها في تفضيل هذا ، فمما ذكره في تفضيل الليل أن الله أنزل فيه سورة مسماة " سورة الليل " ، ولم ينزل في النهار سورة تسمى سورة النهار ، وأن الله قدم ذكره على النهار في أكثر الآيات ، كقوله : ( لأبي الحسين بن فارس اللغوي والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) ( جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا ) وأن الله خلقه قبل النهار ، وأن ليالي الشهر سابقة على أيامه ، وأن في الليل ليلة خير من ألف شهر ، وليس في الأيام مثلها ، وأن في كل ليلة ساعة إجابة ، وليس ذلك في النهار إلا في يوم الجمعة خاصة ، وأن النهار فيه أوقات تكره فيها الصلاة ، وليس في شيء من ساعات الليل وقت كراهة ، والصلاة من أشرف العبادات ، وأن فيه التهجد والاستغفار بالأسحار ، وهما أفضل من صلاة النهار واستغفاره ، وأنه أصح لتلاوة الذكر ، قال تعالى : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ) وقال : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا ) وأن الإسراء وقع بالليل ، قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) وقال تعالى : ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ) وقال أهل العلم : في الليل تنقطع الأشغال ، وتجم الأذهان ، ويصح النظر ، وتؤلف الحكم ، وتدر الخواطر ، ويتسع مجال القلب ، ومؤلفو الكتاب يختارونه على النهار ; لأن القلب بالنهار طائر ، وبالليل ساكن ، وكذلك مدبرو الملك . وقديما كان يقال : الليل نهار الأريب ، وقال القائل :
ولم أر مثل الليل جنة فاتك إذا هم أمضى غنيمة ناسك
وعارضه صاحب النهار بأن الله قدم ذكره في قوله : ( والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها ) وبأن التقديم لا يدل على أفضليته ، فقد قدم الله الموت على الحياة ، والجن على الإنس ، والأعمى والأصم على البصير والسميع في قوله : ( خلق الموت والحياة ) ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) والمتأخر مما ذكر أفضل من المتقدم قطعا ، وبأن النور قبل الظلمة ، قال تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) وبأن الناس والشعراء ما زالوا يذمون الليل ويشكونه [ ص: 380 ] كقول امرئ القيس : وليل كموج البحر . الأبيات . وقد استعاذوا بالله من الأبهمين ، ويقال : الأعميين - السيل والليل ، وبالليل تدب الهوام ، وتثور السباع ، وتنشر اللصوص ، وتشن الغارات ، وترتكب المعاصي والفاحشات ; ولذلك قيل : الليل أخفى للويل ، وقد شبه الله تعالى به وجوه أعدائه ، فقال : ( كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ) وكان الحسن يقول : ما خلق الله خلقا أشد سوادا من الليل ، وقال تعالى : ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قيل : هو الليل إذا أظلم ، وتقول العرب للمكثار : حاطب ليل ; لما يخشى عليه فيه من نهش أو تنهش ، ، وافتخرت العرب بالأيام دون الليالي ، فقالوا : يوم ذي قار ، ويوم كذا . والأسبوع أيامه مسماة دون الليالي ، فإنما تذكر بالإضافة إلى الأيام فيقال : ليلة الأحد ، وليلة كذا ، وليس المضاف كالمضاف إليه ، والأيام النبيهة أكثر من الليالي ، كيوم الجمعة ، ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ، والأيام المعلومات والمعدودات ، وليس في الليالي إلا ليلة القدر وليلة نصف شعبان . وقال صلى الله عليه وسلم : " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جداد الليل وصرام الليل ، وأمر بغلق الأبواب وكف الصبيان بالليل ، وقال : " إن للشيطان انتشارا وخطفة " " ، ولم يقل ذلك في شيء من الليالي . اللهم بارك لأمتي في بكورها
وأما السؤال التاسع والثلاثون : ففي " كشف الأسرار " : إنما آدم من التراب دون غيره ; لأنه لم يكن قبل آدم شيء إلا التراب ، فخلقه منه ، ثم خلق حواء من آدم ; لأنه أراد أن يكونا من جنس واحد ، وخلقها من الضلع ليعلم أنهن خلقن من العوج ، فلا يطمع في تقويمهن . خلق
وأما السؤال الأربعون : ففي " كشف الأسرار " سؤال : عيسى إلى السماء ؟ قيل : لأنه أراد أن يصحب الملائكة ليحصل لهم بركته كما صحبه التائبون في الدنيا ، وأيضا لما لم يكن دخوله من باب الشهرة وخروجه لم يكن من باب المنية ، بل دخل من باب القدرة وخرج من باب العزة . لم رفع
وأما السؤال الحادي والأربعون : ففي " كشف الأسرار " : إنما سمي مسيحا لأنه كان يسيح في الأرض ، ويقال : ولد ممسوحا بالدهن ، ويقال : لأنه كان يمسح الضر عن الأعمى والأبرص والأكمه ، ويقال : لأنه لم يكن لقدمه أخمص . وزاد ابن الأثير في " النهاية " ما نصه : وقيل : الصديق ، وقيل هو بالعبرانية مشيحا ، فعرب . وأما السؤال الثاني والأربعون : ففي صحيح المسيح أنه يقيم سبع سنين ، وفي مسند مسلم في أثناء حديث أنه [ ص: 381 ] يقيم أربعين سنة ، وجمع بينهما بأن المراد بالأربعين مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده ، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة . أبي داود الطيالسي
وأما السؤال الثالث والأربعون : ففي " كشف الأسرار " : قيل : اثنتي عشرة سنة بعدد حروف ( اذكرني عند ربك ) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لولا كلمة يوسف ما لبث في السجن طول ما لبث . وأقول : أخرج في تفسيره من طريق ابن أبي حاتم الضحاك ، عن في ابن عباس فلبث في السجن بضع سنين ) قال : اثنتي عشرة سنة . قوله تعالى : (