خطورة الإبقاء على الأخطاء وتعطيل الحوار والمناصحة
إن السبب على الإبقاء لسبب أو لآخر، وعدم كشفها وتبصير الجيل بها، ومن ثم معالجتها هـو أشبه ما يكون بوجود الألغام الموقوتة التي تزرع في الجسم الإسلامي، وقد يكون فتيلها في يد العدو يفجرها بين حين وآخر لتودي بالعمل الإسلامي كلما حاول النهوض وكاد أن يستوي على سوقه.. لذلك فإن فلسفة التبرير وتوقف المناصحة وتعطيل الحوار وعدم دراسة جوانب التقصير لا يقتصر على تكريس هـذه الأخطاء ونموها، وإنما يؤدي إلى تكرارها.. ولا بد أن يدرك دعاة الإسلام على مختلف مواقعهم أن الخطورة، كل الخطورة في التستر على الخطأ والقبول بالإبقاء عليه، فتنمو العلل في جسمنا، وليست الخطورة في بيانه ومعالجته.
إننا لا نشك في إخلاص كثير من الذين يحذرون من عمليات النقد، وغيرتهم على العمل الإسلامي، ولكننا نشك في إدراكهم وصوابهم، حيث لا يكفي الإخلاص لبلوغ العمل غايته بل لا بد من الإدراك؛ وعمليات التصويب - كأمر مطلوب - لا تقل أهمية عن الإخلاص إن لم تكن هـي الإخلاص أيضا، بل لا بد منها ليأتي الإخلاص بالثمرة بإذن الله تعالى..
لقد كان هـذا هـو منهج علماء الحديث الذين أخذوا على عاتقهم القيام بالمحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هـذا العمل الضخم، وضع أصول الجرح والتعديل ونقد السند، والمتن، الأمور التي لو التزمها المسلمون في حياتهم وممارساتهم اليومية لكانوا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ، فبعض الرواة، على الرغم من أنهم على مرتبة من العبادة والإخلاص لا يتطرق إليها شك، ومع ذلك لم تقبل روايتهم لعدم قدرتهم على الضبط، ولسيطرة الغفلة عليهم..
ولقد وصل الإخلاص ببعضهم، عن حسن نية في مجال الترغيب والترهيب إلى وضع زيادات لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندما سئلوا عن ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [ ص: 46 ]
( من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) .
" قالوا:
(إننا كذبنا له ولم نكذب عليه) .. فكان هـذا محل رفض من علماء الحديث، فإن الكذب له بمرتبة الكذب عليه، ولو كان دافع الكذب عليه: الزندقة وكراهية الإسلام؛ ودافع الكذب له: الترغيب في الخير والترهيب من الشر..
إننا نعتقد أن هـؤلاء المخلصين كالأم التي تصل غيرتها ومحبتها لوليدها الوحيد إلى عدم تقويم سلوكه وتربيته على تحمل المسئولية، حفاظا على شعوره فتصنع منه إنسانا هـشا عاجزا عن مواجهة مشكلاته، وقد تؤدي محبتها له وحرصها عليه إلى موته، لأنها تحول دون تسليمه للطبيب خشية أن يخاف من مقابلته أو يتألم من بعض علاجه دون أن تدري أنها آلام موقوتة تضمن له الصحة والعافية والحصانة ضد الأمراض..
لكن تبرز هـنا قضية على غاية من الأهمية لا بد من التنبه لها: إنها قضية الالتزام بأدب الإسلام في الحوار والخلاف في وجهات النظر، والجدال بالتي هـي أحسن، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم حتى لا يكذب الحق؛ وإعطاء الآخرين الحق نفسه في إبداء الرأي، والتزام منهج النبوة في أن ينصرف التقويم والتصويب والنقاش للأعمال والأفكار والبعد عن تناول الأشخاص والهيئات والجماعات، فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعتبر سكوته تشريعـا وإقرارا لم يكن يسكت عن أي تقصير أو انحراف لكنه كان يعمم النفع على مجتمع المسلمين ويشيعه فلا يقعون بما وقع به صاحب الخطأ، فيقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.. يقولون كذا وكذا.. ) ذلك أنه من كان آمرا بالمعروف فليكن أمره بمعروف، فإذا لم يلتزم الأدب والخلق الإسلامي تنقلب المناصحة والنقد إلى لون من التشهير والجلد يوقع في ردود الفعل حيث يتصلب المخطئون ويزيد استمساكهم بخطئهم، لكن الخطأ في المعالجة وغياب الحكمة في عمليات النقد والمناصحة لا يجوز بحال من الأحوال أن يودي بأصل القضية ويقود إلى إلغاء المناصحة بحجة فقدان الحكمة وجهل وفظاظة الذين يمارسونها، وإنما يتطلب إلغاء الوسيلة غير المجدية أو تهذيبها أو استبدالها، والاحتفاظ بضرورة استمرار القضية للمجتمع الإسلامي والعمل الإسلامي. [ ص: 47 ]