رمضان شهر القرآن
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) (الزمر 53)
وتمر الشهور وتتقلب السنون، ويظلنا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ليعيد إلينا المعاني الكبيرة، والكبيرة جدا التي تشكل بمجموعها معالم الحياة الإسلامية، وقيم الدين التي يجب أن لا تغيب عن حياة البشرية، في رحلتها الطويلة وأحوالها المتبدلة وحاجاتها المتجددة، ونزوعها النهم إلى الإشباع المادي والجنسي الذي لا حد له، والذي يقودها إلى الأثرة والطغيان، ومجتمع الإباحية..
إن التأكيد على هـذه المعاني الخيرة، التي يحمل دلالاتها شهر القرآن والتدريب عليها شهرا في كل عام، لا يعتبر من قبيل الإعادة والتكرار، وإنما يعني فيما يعني التجديد والتعميق والرعاية والتنمية لها والتربية عليها وإزالة الغبش والران الذي يمكن أن يلحق بها، كما أنه يعني الحماية لها من الغياب عن حياة المسلمين، والضمان لاستمراريتها، لأن غياب البعد الإيماني واغتيال الشياطين، حاصل في حمأة الحياة المادية وسيطرة الشهوة الجنسية.. ذلك أن الأمر الذي استذل البشرية وعبد رقابها وتحكم بها تاريخيا [ ص: 164 ] هو شهوتا البطن والفرج، فهل تعني العودة إلى تناول الطعام الذي به قوام الجسم من قبيل التكرار؟!! فإذا كان هـذا بالنسبة لغذاء الجسم فأين هـو من غذاء العقل ورواء الروح؟!!..
لذلك كانت العودة لتأصيل هـذه المعاني، وتأكيدها وتعميقها لتصبح منهجا للمسلم يأخذ بها وتصطبغ بها حياته.. لا يمكن بحال من الأحوال أن تحكمها قاعدة التكرار وعيوب التكرار، وتستوي في ذلك العبادات كافة الصلاة المتكررة في اليوم خمس مرات، والزكاة، والصيام الذي يعاودنا في العام مرة، والحج المفروض في العمر مرة أيضا..
إن العبادات في الإسلام لا تغني فيها الواحدة عن الأخرى حيث لكل وظيفتها وضروراتها في بناء الشخصية الإسلامية، فهي جميعها غذاء العقيدة والتعبير الإيجابي والعملي عنها.
إن الإنسان مجبول من دوافع الخير ونوازع الشر، وطريق الخير واحد وطرق الشر كثيرة على رأس كل واحد منها شيطان يغري بها، ونزوع الإنسان إلى الشر قائم ودائم فلا بد له من ديمومة حراسة ويقظة وتزود بطاقات تضمن ديمومة تغلب دوافع الخير على نوازع الشر.. ولا يتأتى هـذا إلا بالعبادات عامة وبصيام رمضان شهر القرآن خاصة.
فالرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي هـو محل الأسوة والقدوة كان أجود الناس ومع ذلك كان أجود ما يكون في رمضان.. إنه الجود الذي يكبر ويزداد ولا يحول دونه أي عائق حتى يصير أجود بالخير من الريح المرسلة..
ذلك أن الصيام: هـو التربية الحسية المادية على الإحساس بجوع الجائعين، والشعور بحاجة المحتاجين.. إنه التكامل الاجتماعي الذي يربي عليه الصيام الفرد المسلم ليكون المرآة الصادقة له والنافذة الصحية لاستشعاره.. إذ لا يمكن للإنسان المترف أن يحس بصدق محسن تقدير لحاجة الفقراء كما لا يمكن للإنسان المتخم، أن يحس بصدق واستجابة لتضوع الجائعين والمحتاجين.
إنها دورة المعاناة المفروضة ومركز التدريب الذي لا يقتصر على الزعيم والقائد والكاتب والمفكر والغني والفقير والطبقة. إنما هـي المعاناة التي تنتظم الجميع فتشعر بالتساوي، وتلغي التمايز، وتحقق التكافل حيث لا يؤمن من [ ص: 165 ] بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم.. إنه الشعار المرتبط بالشعيرة؛ شعيرة الصوم، ومطابقة القول العمل.