التراجع إلى مواقع الفكر الدفاعي
( ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) [حديث شريف ]
الفكر الدفاعي أو الأدب الدفاعي، كما يحب أن يسميه بعضهم، هـو مرحلة طبيعية تمر بها الأمة في معركة تحقيق الذات حضاريا، وانتزاع الاعتراف بها، وتحديد وجودها، والدلالة على أن ما تمتلكه من المقومات لا يقل عما تمتلكه الأمم المتقدمة في المجال الإنساني، كما أنه ينسجم مع واقع الحياة المتطورة ولا يتخلف عنها، وهو سلاح الأمة الوحيد بعد مرحلة السقوط الحضاري تشهره في وجه أعدائها لتدافع عن وجودها الثقافي، وتثبت به هـويتها، وتبرز ذاتيتها، وتعلن استقلاليتها، وتخلص أبناءها مما يمكن أن يترسب في نفوسهم من عقدة النقص نتيجة للهزائم الداخلية في مرحلة القابلية للاستعمار، والمناخ الذي يخلفه افتتان المغلوب المتخلف بالغالب المتقدم، خاصة عندما تكون مهمة الغالب وبغيته تذويب الأمة واغتيال وجودها التاريخي، والقضاء على معالم أفكارها، حيث يبدأ الغالب - وهذا أمر طبيعي - باستلام زمام المبادهة، فيقذف الأمة بمجموعة من المشكلات والقضايا، قد لا تعاني منها أصلا، يحتجز نشاطها، ويستوعب فاعليتها، ويستهلك جهدها، ويتحكم بمساراتها العقلية ونشاطاتها الثقافية، أي أنه يسيطر على ساحة الفاعلية، ويتحكم بعطائها مسبقا. [ ص: 61 ]
والأمر الذي لا شك فيه أن سلاح الأدب الدفاعي، أو الفكر الدفاعي، بحجمه الطبيعي وكونه واقعا ضمن إرادة الأمة ومتروكا لاختيارها واختبارها، أمر طبيعي.. وواقع مستمر ولازم لبقاء الأمة واستمرارها..
ذلك أن ديدن الأعداء هـو باستمرار الهجوم الدائب، ومحاولة التفتيش عن المواقع الضعيفة للتسلل منها، ونحن بحاجة دائمة إلى حراسات متيقظة ترابط في المواقع الحضارية للأمة، لضمان سلامتها، وحفظ ثقافتها، ورد كيد المبطلين عنها.
لكن المشكلة، كل المشكلة، تكمن في هـذه الحرب الحضارية القائمة على الاستنزاف المستمر للطاقات الفكرية، والاستهلاك الدائم للنشاطات الذهنية لمجموع الأمة بحيث لا يترك لها من الوقت ما هـو كاف للنظر في مشكلاتها الحقيقية والقدرة على تصنيفها، ومن ثم صرف الجهود إلى معالجتها والتفرغ لها، بحيث إنها كلما حاولت الانتصار على مشكلة أو كادت، قذف إليها بغيرها لتبدأ من جديد في مواجهة الخروق الجديدة التي قد تكون موهومة في كثير من الأحيان، كما أسلفنا، تطرحها مراكز متخصصة لصناعة الاهتمامات على العالم المتخلف لإبقائه على الساحة الفكرية نفسها، يراوح فيها ولا يستطيع تجاوزها..
إن الأدب الدفاعي في نهاية المطاف يمكن أن يحقق مرحلة التمييز نوعا ما، لكنه على كل حال يبقى عاجزا عن البلوغ بها إلى مرحلة الرشد، إنه قد يحفظ الطاقات، أو يحافظ عليها، لكنه يبقى دون مرحلة التحكم بها وترشيدها وتحقيقها للغايات المنوطة بها..
نعود إلى القول بأن المواجهة الدفاعية يمكن أن تشكل مرحلة من حياة الأمة، وهذا أمر طبيعي وسليم، وأن يكون سلاح المواجهة مستمرا كأحد أسلحة المعركة الحضارية، فهذا أمر سليم أيضا، لكن أن تكون مرحلة الأدب الدفاعي هـي البداية والنهاية، ويكون السلاح الدفاعي هـو كل ما تستخدم الأمة من أسلحة، فهنا تكمن المشكلة وتحصل الخطورة التي نحذر منها، والتي أقل ما يقال فيها: إنها عمليات لإلهاء الأمة عن مشكلاتها الحقيقية، واستمرارية التحكم بنشاطها الثقافي وإنتاجها الفكري، وصرف فاعليتها إلى الساحات التي يرسمها العدو ابتداء بحيث تنتهي الأمة التي تشعر بالخطر، ولا تستطيع أن [ ص: 62 ] تقدره حق قدره، إلى التصرف بضرب من ردود الفعل لا تملك معها من أمرها شيئا، وكلما حاولت الانتصار في موقع، فتح العدو عليها المعركة في موقع آخر ليصرفها إليه، ويحنط جهدها في المكان الذي يحدده مسبقا..
ومن هـنا يأتي القول بخطورة هـذه المعركة، واتساع مساحتها التي تستغرق جهد الأمة وكل طاقتها، ويكون الحصاد هـشيما..