تأصيل الشورى
لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزحف الأحزاب إلى المدينة ، وعزمها على استئصال شأفة المسلمين، استشار المسلمين، وقرروا بعد الشورى: التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، وقال: يا رسول الله، إنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا.. فأمر بحفر [ ص: 74 ] الخندق، واستمر الحصار نحو شهر تقريبا، كما قدمنا وعظم البلاء وانخلعت القلوب وشاع النفاق، وظن بالله كل ظن، وبلغت القلوب الحناجر، ونكتفي هـنا بمثال واحد: قال بعض المنافقين (معتب بن قشير) : كان محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وقال (أوس بن قيظي) على ملأ من رجال قومه: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، وليس دار من دور الأنصار مثل دارنا، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا..
فلما اشتد البلاء على الناس، وحقنا لدماء المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عوف المري - قائدي غطفان - يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وأحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلح، وهموا بكتابته، ولم تقع الشهادة ولا عزيمته إلا المراوضة في ذلك، ( فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمر تحبه فنصنعه؟ أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيء تصنعه لنا؟ قال؛ بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه نعطهم أموالنا والله ما لنا من حاجة.. والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذلك ) . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
إن ما يلمحه الإنسان في هـذه الغزوة وفي غيرها من حوادث السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنزل الشورى منزلتها وأصلها في حياة الأمة، إذ لا بد من توسيع قاعدة الرأي، والحاجة إليها إنما تكون خاصة في الشدائد والقرارات المصيرية والملمات على غاية من الأهمية، حيث يكون الخطأ قاتلا، فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول في عقل، وقضاء على الاستبداد والفردية في الرأي، وبناء يساهم الجميع في إقامته، ومن ثم تكون أعلى أنواع [ ص: 75 ] التضحية والبذل في الدفاع عنه.
والرسول صلى الله عليه وسلم مستغن عن الشورى بالوحي، فهو المؤيد بالوحي، وهو المسدد به، لا حاجة به إلى الشورى، لكن لا بد من تأصيلها لتكون أصلا من أصول الحكم لا يملك المجتمع المسلم أن يحيد عنها، كما لا يملك الحاكم المسلم أن يتجاهلها أو يعتدي عليها، ويقظة المسلم دائمة في العمل لها وعدم التنازل عنها، لأن ذلك إلى جانب كل مضاره في الدنيا مدعاة لسخط الله الذي جعلها من سمات مجتمع المسلمين بقوله: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى: 38) ، ومع ذلك لا يزال في عالم المسلمين اليوم من يستهويه الاستبداد، ويتصيد الوقائع التاريخية، ويجهد نفسه في تفسير النصوص ليخرج على المسلمين بأن الشورى ليست ملزمة للحاكم، وإنما هـي معلمة له فقط، وأن الحاكم بالخيار إن شاء عمل بها وإن شاء تركها، وأعطي الحاكم في الدولة وأعطي المسئول عن أية جماعة مسلمة من العصمة ما لم يعطه النبي المرسل صلى الله عليه وسلم عندما سأله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة: شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا؟
وإذا كانت إلزامية الشورى أو إعلاميتها اجتهادا يمكن أن يخطئ ويصيب، كما هـو الحال في سائر الاجتهادات، فما هـو المسوغ للاستمساك بعدم إلزامية الشورى والدفاع عن ذلك بعد هـذه الانهيارات الرعيبة وألوان الاستبداد في عالم المسلمين، وهذا التردي والتصرف الفردي في بعض الجماعات التي تعمل للإسلام؟!