تحديد الموقع الفاعل
وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما كان من الشدة والبلاء من الخارج، وشكوك المنافقين وإشاعتهم الرعب في النفوس من داخل الصف: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) (يوسف: 110)
وقد بلغت المحنة غايتها، ( جاء نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني ، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة، فأتى بني قريظة فقال: قد عرفتم ودي إياكم، لا تقاتلوا محمدا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا منهم رهنا، فإنهم إن لم يصيبوا نهزة لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به.. قالوا: صدقت. ) فأتى قريشا فأظهر لهم إخلاصه ونصحه، وأخبرهم بأن يهود قد ندموا على [ ص: 77 ] ما فعلوا، وسيطلبون منهم رجالا من أشرافهم تأمينا للعهد، وسيسلمونهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضرب أعناقهم.. وقال لغطفان مثل ما قال لقريش ، فكان كلا الطرفين على حذر، وطلب أبو سفيان ورءوس غطفان معركة حاسمة بينهم وبين المسلمين، فتكاسل اليهود وطلبوا منهم رهائن من رجالهم، فتحقق لقريش وغطفان صدق حديث نعيم وامتنعوا عن تحقيق مطلب يهود، وبذلك تحقق اليهود من صدق نعيم كذلك.. وتوغرت صدورهم على يهود، ودبت الفرقة بين الأحزاب، وهكذا تمزق الشمل، وتفرقت الكلمة، وكان أمر الله قدرا مقدورا، هـنا لا بد من وقفة وإن كانت هـذه الوقفة، مهما كانت طويلة لا تعطي قضية نعيم حقها: ( إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة ) لقد وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم على الجادة، وأحسن نعيم السير.. أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما ترى.. أية قدرة هـذه في تحقيق الموقع الفاعل للعمل الإسلامي من القائد! وأية قدرة على التصرف وحسن التحرك من خلال الظروف والإمكانات من المسلم؟ لم يعلم أحد بإسلامي - الحرب خدعة..
إن القدرة على التصرف من خلال الظروف المتاحة والإمكانات المتوفرة، وتحديد موقع العمل الفاعل بدقة واختيار وسيلته المجدية هـي مشكلة العمل الإسلامي اليوم..
إن السلوك النبوي في مرحلة الدعوة والإنجاز النبوي في مرحلة الدولة يمدنا برؤية زاخرة تبتدئ عتبتها من قوله تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (النحل: 110) في مرحلة الدعوة، واشتداد الظلم، وفضل الصبر، وتنتهي إلى قوله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) (الأنفال: 39) . إنها القدرة كل القدرة على تحديد مواقع العمل من خلال هـذه السلسلة الطويلة من الآفاق المتعددة.. ولعل العجز عن الرؤية هـنا يأتي قاتلا، فقد نحنط أنفسنا أو يحنطنا أعداء الإسلام في موقع لا نستطيع أن نبصر غيره - وقد نتجاوز المواقع الممكنة والمجدية، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، إلى المواقع المستحيلة فنكلف أنفسنا بما لم يكلفنا الله به - ونرتاد مواقع لا نملك إمكاناتها، الأمر الذي يوقعنا في الإحباط [ ص: 78 ] والانكسار، وقد يلجئنا إلى محاضن مرفوضة شرعا تحت شعار: (الضرورات تبيح المحظورات) ..
إنها الضرورات التي صنعناها بأيدينا لتأتي النتائج المترتبة عليها أشبه بمسلمات تحكم العمل الإسلامي لا تجوز مناقشتها..
[ذو القعدة : 1403 هـ - آب (أغسطس) : 1983م] [ ص: 79 ]