حق السيادة والألوهية
إن قضية تحقق العدالة والمساواة على مستوى السلوك في الحياة يأتي ثمرة لقناعة عقيدية على مستوى التصور بأن السيادة لله، وأن التشريع بيده، وأن القيم التي يتحاكم إليها الناس وتحكم سلوكهم هـي من وضع الخالق العليم الحكيم، والتسليم بأن خالق الإنسان هـو أعلم بالمنهج والقيم التي تحقق له السعادة، وتضمن له العدالة والمساواة، قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك: 14) .
ذلك أن معظم الشر والشقوة في الحياة، وفقدان العدالة والمساواة كامن في نزوع الإنسان إلى التأله والسيادة، وفي تسلط الإنسان على الإنسان، وأن هـذا التسلط أخذ على مر التاريخ صورا شتى وممارسات متعددة، وكانت حقيقته واحدة، فتارة كان يأخذ صورة التمييز العنصري أو اللوني، أو القومي، أو الطائفي، أو الحزبي، أو العشائري القبلي، أو الطبقي.. وأخرى قد يلبس أثوابا دينية ويمارس إرهابا فكريا باسم الدين ورجاله، والتسلط هـو التسلط.. وبالتالي فلا يمكن إيقاف هـذا التسلط وتحقيق العدالة والمساواة إلا بأن تكون السيادة لله والتشريع بيده، وبذلك فقط يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، إذ لا يمكن أن يتصور عقلا بأن يعطي الإنسان المخلوق نفسه حق السيادة والألوهية، فيتصرف بالآخرين من أمثاله وفق رغائبه ورؤاه، ويشرع لهم قيمهم التي تنظم سلوكهم وتحكم تصرفاتهم وتتحكم بمصائرهم بعلمه المحدود، وعمره المحدود، ووقوعه تحت تأثيرات كثيرة [ ص: 110 ] ومتعددة، فيأتي تشريعه قاصرا من جانب ومحققا لمصلحة طبقته وفئته وحزبه أو طائفته مستغلا للآخرين ومستبدا بهم من جانب آخر.
لذلك كان الاعتقاد بأن السيادة لله، والتشريع بيده، والقيم من وضعه من أولى الحقائق والبدهيات في التصور الإسلامي التي لا يمكن أن تتحقق العدالة والمساواة بدونها أيضا.. ومن هـنا نستطيع أن نقول:
إنه لا يكتمل إيمان المؤمن ما لم يعتقد ذلك، ويسعى جهده لإبلاغه للناس وإقناعهم به واستفراغ الوسع في العمل على تطبيقه في حياة الناس، لأن تحكيم الشريعة والاحتكام إليها ثمرة طبيعية، وقضية لازمة لعملية الإيمان الأولى كما أسلفنا؛ ذلك أن ادعاء الإيمان والنكوص عن الالتزام بالشريعة والانضباط بمقياسها يبقى دعوى بلا دليل، ومن يخالف فعله قوله كان كالذي يوبخ نفسه، وكثيرون في عالمنا الإسلامي من أولئك الذين تسموا بأسماء المسلمين، ممن أصبحت حرفتهم اللعب بالمبادئ والتلاعب عليها، وإماتة المطالبات بتطبيق الشريعة الإسلامية في أدراج اللجان، وتغييبها عن المواقف الجادة؛ والعبث بعواطف المسلمين من تسويف المبطلين والاعتذار بالغيرة على الأمة وذلك بتقديم القضايا الهامة والخطيرة في أولويات البحث والمناقشة، وكأن البحث في تطبيق الشريعة ليس من القضايا الهامة، قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء: 65) .
ولا نجد أنفسنا بحاجة إلى الوقوف عند مدلولات الآية لأنها من الآيات المحكمة التي لا لبس فيها ولا تشابه، ولا مجال لتأويل أو تمحل؛ والذي يزعم أنه مؤمن بالله ثم يتحاكم - فيما يستطيع - إلى غير شرعه فقد وقع في الضلالة والخزي، قال تعالى: ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) (النساء: 60) .
وقد يكون من الأمور الضرورية هـنا إلقاء بعض الأضواء، وتحديد أبعاد خطاب التكليف بدقة، وعلاقة ذلك بالوسع والطاقة، ونصيب كل فرد من أفراد المجتمع من خلال موقعه من هـذا الخطاب، ذلك أن الفهم المعوج أو الإخلاص الذي يفتقر إلى الإدراك قد يؤدي في بعض الأحيان إلى استجابات [ ص: 111 ] مغلوطة تحمل بعض المساوئ للقضية الإسلامية نفسها، حيث يكلف الإنسان نفسه بما لم يكلفه الله به، و ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة: 286) .. فالخطاب كما هـو معلوم، لكل مسلم حاكما أو محكوما، فردا أو جماعة، لكن نصيب كل فرد ومسئوليته في الاستجابة، ومساحة تلك الاستجابة، تختلف من إنسان لآخر، ومن موقع لآخر.
أيضا، فالإيمان بسيادة الله وأن ثمرة تحكيم شريعته بين الناس دين يتساوى فيه الجميع، لكن القدرة على إبراز ذلك وإنفاذه تختلف من مسلم إلى آخر بحسب موقعه وإمكاناته، كما أسلفنا، ومن هـنا نقول: إن القيام على تطبيق شريعة الله وتنفيذ حدودها لا بد له من سلطان إسلامي، وإن تطبيق بعض الأحكام من قبل بعض الأفراد على أنفسهم أو على الآخرين فيما يخص السلطان المسلم، من إنفاذ العقوبات وما إلى ذلك، إنما يمكن أن يصنف في إطار الفهم غير السليم وغير السوي للاستجابة الإسلامية للأحكام الشرعية.. ونعتقد هـنا أن نصيب الفرد من خطاب التكليف في أن يقيم من نفسه حاكما يمارس ما ليس له شرعا، وإنما العمل على وجود السلطة المسلمة التي تلتزم ذلك وتقوم به.