المسلم وعقدة الاغتراب
الأصل أن المسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب ، ولا يصاب بأمراض وعلل الاغتراب، من الضياع والذوبان والسقوط الحضاري والكثير من الآثار السلبية الأخرى التي تسببها الهجرات، ذلك أنه يعتقد أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن الدنيا كلها وطن له ومحل لدعوته، وأن وجود الناس أيا كانوا مجاله، وأن هـاجسه الدائم استنقاذهم مما هـم فيه وتحقيق سعادتهم في معاشهم ومعادهم، فهو كالقمر الذي لا ينطفئ ضوءه، فإذا غرب من مكان ظهر في مكان آخر فيكون النور، وكالماء إذا حبس في مكان تفجر في مكان آخر فيكون الزرع ويكون العطاء. وهذا لا يتعارض مع قضية الوطن والعمل على حمايته وتنميته، ولا شك بأن مكة كانت أحب بلاد الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولولا أن قومها أخرجوه منها ما خرج قال تعالى: ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) (الأنفال: 30) ، والجهاد إذا احتل الوطن أو هـدد بالاحتلال يصبح فرض عين على الجميع. قال تعالى: ( انفروا خفافا وثقالا.. ) (التوبة: 41) لكن مع ذلك فالوطن هـو القاعدة الأرضية للعقيدة، وقد يصبح بلا معنى إذا حرم المسلم فيه عقيدته التي هـي من أولى حاجاته وأهم حقوقه في المواطنة ، فنصل إلى المسألة الصعبة التي تعاني منها بعض مجتمعات اليوم: وطن بلا مواطنين ومواطنون بلا وطن..
ولا بد هـنا من التفريق - بين أمرين - بين عقدة الاغتراب كحالة غير سوية، لأنها تؤدي إلى السقوط وضياع الهوية، وبين الحس بالاغتراب، ذلك أن الحس بالغربة حافز للتغيير، وهاجس لصنع الحضارة، وقلق سوي لا يؤدي [ ص: 131 ] إلى الانسحاب والهروب والرفض، وإنما يدفع إلى الفاعلية وتلمس وسائل التغيير المشروعة والمجدية؛ لأنه لو لم يشعر الإنسان بهذا التناقض بين القيم التي يؤمن بها والواقع الذي يعيشه، إذا لم يشعر بالتحدي فأنى له اكتساب الأسباب واستكناه السنن ومحاولة التغيير التي تبدأ بنفسه وتنتهي بمجتمعه.