السنن الجارية.. والسنن الخارقة
من الحقائق الأولى لهذا الدين أنه يتعامل مع الإنسان بكل مكوناته الفطرية والنفسية ومدى قدرته واستطاعته على التعامل مع السنن الجارية التي شرعها الله تعالى للحياة والأحياء، وأن غاية التكليف الشرعي من بعض الوجوه يتمثل في قدرة الإنسان المسلم على فهم هـذه السنن وحسن تسخيرها والتعامل معها، كما شرع الله، وعدم الارتطام بها، فهذه قوانين الله وسننه الجارية في الحياة والأحياء التي جاء الأنبياء وأوقفوا الناس عليها، وقدموا لهم نماذج من حياتهم عن كيفية [ ص: 140 ] التعامل معها، أما السنن الخارقة، فهي لون آخر من أقدار الله الغلابة التي لا يد للإنسان فيها ولا اختيار له معها ولا يحاسب عليها، ولو أراد الله نصرة نبيه في كل معركة بسنة خارقة لنصره بلا شك، لكنها السنة الجارية التي تكمن في القدرة على التعامل معها كما شرع الله أمر التكليف؛ فالقضية تخضع لسنن جارية وحسن الاستفادة من الإمكانات المتوفرة والفرص المتاحة، ولا تتحقق بالأماني وأحلام اليقظة وانتظار المنقذ، قال تعالى: ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به. ) (النساء: 123) .
لذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم انتصر بعد توفير الأسباب ليكون قدوة في النصر، وهزم المسلمون في بعض معاركهم بسبب وتقصير منهم ليكون الاقتداء أيضا بكيفية التعامل مع الهزيمة والتصرف بعدها.. وتلك الأيام نداولها بين الناس..
ولعل أكبر الهزائم في تاريخ النبوة كانت معركة أحد ، والتي كان عنوان الهزيمة الكبير فيها والأسباب التي أدت إليها قوله تعالى بعد التساؤل الذي طرح: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليهـا قلتم أنى هـذا قل هـو من عند أنفسكم.. ) (آل عمران: 165) .
ولا نزال منذ أربعة عشر قرنا إلى الآن نتلو آيات آل عمران التي تبين الواقع النفسي والتصرف العملي لهزيمة أحد ليكون ذلك عبرة ودرسا نسقطه على واقعنا بمقدماته ونتائجه، ونحقق تعدية الرؤية القرآنية لتكون ضوءا كاشفا لحياتنا؛ والأمر المضحك أو المحزن حقا أن يعتبر بعضنا نفسه فوق مرتبة النبوة والمساءلة ويعفي نفسه من الاعتراف بالتقصير ويلقي بالتبعة على الآخرين فإن خانه الدليل فعلى القدر، ولا يرضى الاعتراف بالهزيمة، الأمر الذي يشكل المرحلة الأولى والضرورية في المعالجة، حتى لقد تعودنا أن نقرأ عن هـزائمنا وأسبابها ونتائجها في كتب أعدائنا إلى درجة أصبحت معها كتاباتهم ومعالجاتهم مصادر المعرفة لقضايانا، أو في كتب المنهزمين أنفسهم الذين يأخذهم الصلف فيجعلون من الهزائم انتصارات فيزداد التضليل ويعم الضلال، مع ملاحظة أن قضية في عالمنا الإسلامي يصدر عنها عشرات الكتب والدراسات في الغرب قبل أن تنتهي إلى درجة يمكن أن تتحكم هـذه الدراسات بمسارها وتوجيهها، مع أن آيات القرآن الكريم نزلت على أرض هـزيمة أحد تبين أسبابها، وتعالج آثارها، وترصد [ ص: 141 ] تصرفات أصحابها، وترافقها خطوة خطوة، فأين نحن من تاريخنا، وأين نحن من عقيدتنا؟!
ونحن لا نريد الآن أن نعرض لهزيمة أحد بكلياتها وجزئياتها، فذلك موجود في مظانه من كتب السيرة والمغازي، وإنما هـي مواقف مختارة في مجال التأسي والتأكيد على المنهج القرآني في دراسة أسباب الظاهرة وتحديد تلك الأسباب لتكون درسا مستقبلا لمعالجة الآثار المترتبة على الهزيمة من الناحية النفسية والتربوية..
ويمكن أن نعتبر أن هـزيمة أهل الحق أمام أهل الباطل من أشد أنواع الابتلاء، فالرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم يسقط في الحفرة، فيشج رأسه وتكسر رباعيته، ويخضب الدم وجهه ويشاع قتله.. ويعلو الكفر، فتكون قولة أبي سفيان: أعل هـبل. أي: انصر جماعتك وقومك؛ وتعم البلبلة الصفوف لدرجة يفقد بعضهم معها توازنه، فيقول: الحقوا بدينكم الأول.. إنه الامتحان الرهيب الرعيب لقضية الاستمساك بالحق والمتابعة على طريقه..
طبعا يبقى العنوان العريض للهزيمة في كل هـزيمة وإخفاق الذي وضعه القرآن والذي يجب أن لا يغيب عن المسلم: قال تعالى: ( قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران: 165) وتحت العنوان نلمح من مسيرة الغزوة بعض المعاني السريعة:
يمكن إلى حد بعيد أن نعتبر أن معركة أحد جانب في المعركة المستمرة بين الإسلام وأعدائه وبالتالي فهي لا تنفصل عن بدر الكبرى، فبعد معركة بدر اختلف المسلمون في قسمة غنائم بدر حتى كادت تسوء أخلاقهم، وتفسد ذات بينهم، يقول عبادة بن الصامت :
اختلفنا في الغنائم حتى كادت تسوء أخلاقنا.. فكان أن ذكرهم الله تعالى بالشروط المعنوية للنصر وصفات الإيمان الحق بقوله: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون.. ) (الأنفال:2) إلى آخر صدر سورة الأنفال.
ثم كان الدرس العملي في أحد حيث خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونزلوا لجمع الغنائم برغم التأكيدات الكثيرة منه صلى الله عليه وسلم بعدم النزول ومغادرة المكان مهما كانت نتيجة المعركة، فجاء الدرس العملي القاسي من أول الطريق أن الجهاد في الإسلام للعقيدة وليس للغنيمة، وأن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم موقعة في [ ص: 142 ] الهلاك.. فهل ننسى حظوظ أنفسنا التي ما تزال تسلمنا من هـزيمة إلى أخرى ونسترد الشروط المعنوية للنصر؟