الهجمة المغولية.. حملة صليبية جديدة
وقد يكون المطلوب اليوم أكثر من أي وقت، وقد مضى على احتلال يهود لأرض النبوات سبعة وثلاثون عاما، العودة إلى التاريخ ودراسة الحملات الصليبية، ومن ثم الحقبة الاستعمارية للعالم الإسلامي التي تشكل حلقة غير منفصلة عن الجذور الصليبية، ومن ثم الانتهاء إلى الصورة الأخيرة للغارة على العالم الإسلامي، صورة الصهيونية التي تعتبر امتدادا طبيعيا للحملات الصليبية وتحاول الاستفادة من دروسها، والتي تقف النصرانية بوجهيها الشرقي والغربي على حد سواء في صفها.. فالتحالفات اليهودية الوثنية الصليبية ضد الإسلام والمسلمين ليست جديدة فقد بدأت في غزوة الخندق عندما حزبت يهود الأحزاب ضد المسلمين، وشهدت لقريش الكافرة المشركة وقتئذ أن أصنامها أهدى من دين محمد صلى الله عليه وسلم ولم تتوقف إلى هـذه اللحظة.
ذكر المقريزي في كتابه (السلوك) وغيره من المؤرخين أن المغول أثناء غزوهم للشام والعراق أظهروا اهتماما خاصا بالنصرانية، وعطفا شديدا على النصارى، كما احترموا المؤسسات النصرانية بشكل عام، وإذا كان المغول قد دأبوا في جميع المدن والبلاد الإسلامية التي دخلوها عنوة على ذبح أهلها من المسلمين، فإنهم حرصوا في الوقت نفسه على حماية أرواح وممتلكات سكانه من النصارى، وهكذا هـدم المغول جوامع، وخربوا مساجد ومآذن، في الوقت الذي حافظوا فيه على الكنائس وشملوها بحمايتهم، وقتل المغول كثيرا من فقهاء المسلمين وعلمائهم، وأعدموا خليفتهم في بغداد، في الوقت الذي لم يحاولوا المساس بأسقف أو قسيس أو راهب.. بل لقد حدث في الوقت الذي قتل المغول فيه الخليفة العباسي، وأحرقوا المسجد الجامع أن أنعم هـولاكو على البطرق النسطوري في بغداد بالهدايا الثمينة، وخصص أحد قصورها مقرا له.. لذلك لا عجب إذا هـلل النصارى الشرقيون بوجه خاص لما قام به المغول من أعمال في العراق والشام، واعتبروهم حماة النصرانية الذائدين عنها، الآخذين بثأرها فحرص بعض بطارقتهم وأمرائهم على ملازمة المغول في زحفهم ومشاركتهم في احتلالهم، بل على تحريضهم ضد المسلمين للتشفي فيهم والقضاء عليهم؛ وبعبارة أخرى: إن المعاصرين من النصارى وجدوا في [ ص: 150 ] غزو المغول لبلاد الشام والعراق فرصة طيبة للثأر من الإسلام والنيل من المسلمين، واعتبروا تلك الغزوة بمثابة حملة صليبية جديدة أتت لنصرة النصارى ، لكنها أتت هـذه المرة من الشرق لا من الغرب مثل سائر الحملات الصليبية المألوفة.. ومما يجب ذكره أن زوجة هـولاكو بالذات كانت نصرانية كما أن بطانته ومستشاريه ومؤيديه كانوا من النساطرة والأرمن بوجه خاص.. ويروي المقريزي في حوادث سنة 658هـ فيقول: (استطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانا من هـولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع عن القيام للصليب، وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهرا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فقلق المسلمون من ذلك وشكوا أمرهم لنائب هـولاكو (كتبغا) فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسس النصارى ونزل إلى كنائسهم وأقام شعائرهم) .
(انظر كتاب الحروب الصليبية لسعيد عاشور، وما كتبه رنسمان عنها أيضا) والمراسلات والاتفاقات بين بعض قادة الحملات الصليبية وبين المغول معروفة في مكانها من كتب التاريخ.
ولكن مسلمي هـذه الأيام ما أسهل أن يخدعوا عن هـذه الحقائق، وأن يسقطوا في الشرك لحظات انفصالهم عن دينهم، وبعدهم عن التزامه وسلوك طريقه القويم..
وترجع أهمية الحروب الصليبية في أنها تشكل تجربة غنية في تاريخ المسلمين، وهذه التجربة ليست من التجارب العابرة المحدودة الأثر والنتائج وإنما هـي تجربة كبرى خطيرة مملوءة بالدروس والعظات، الأمر الذي يتطلب أن نتأملها ونبحثها في كل وقت ونراجع حساباتنا معها على ضوء المستجدات في معركة المواجهة السياسية والحضارية والعسكرية لنستفيد من أخطاء الماضي ونتجنبها، ونواجه أخطار وتحديات الحاضر ونتغلب عليها.. إن ذيول الحروب الصليبية لما تنته بعد، وسواء قلنا: إن التاريخ يعاد بنفسه أو لا، فإن هـناك سننا تحكم قيام الأمم وسقوطها، وتتكرر النتائج كلما تحصلت الأسباب. [ ص: 151 ]