ملكة الفرقان
أي فضل لهذا الشهر على أشهر السنة يمكن أن يكون أكبر من نزول القرآن.. إنه ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هـدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) (البقرة: 185) ، إنه الشهر الذي قدر الله له من بين شهور السنة جميعا أن تتحقق من خلاله صلة السماء بالأرض لتستقيم مسيرة الحياة بعد هـذا التيه والشتات والضلال وتلتقي على الخير.
كان رمضان هـو الموسم الذي أراد الله فيه أن ينزل ( القرآن هـدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) .. (البقرة:185) إنها البينات التي لا بد من الاستمرار على الصلة بها حتى لا تضل بنا الطريق ولا تزل بنا القدم حتى تتحقق فينا ملكة الفرقان، وهي أهلية يختص بها المسلم الملتزم دون سواه.. إنها النظر بنور الله والسير على هـدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تتحصل مكونات أهلية الفرقان من خلال نظرة فلسفية باردة لتعاليم الإسلام تعوزها حرارة العقيدة واستجابة السلوك وحركية الدعوة والعمل الإسلامي، كما أن ملكة الفرقان هـذه ليست كما يظن بعض الناس، أنها تعني المزيد من التحفز العاطفي، والتجديد للتوثب الروحي، بعيدا عن القدرة على الإبصار، والإدراك والتعرف على مسالك الأمور، والإمكانية الفعلية المخلصة على التمييز والتفريق بين الخير والشر، بعيدا عن الهوى.. إن الهدى والفرقان هـما توفر عنصري الإخلاص والإدراك، وسوف لا تحل المعادلة الصعبة التي يعاني منها عالم المسلمين اليوم بتحقيق أحد طرفى المعادلة، إنها لا تحل بالإخلاص فقط على أهميته وضرورته للخلوص من الهوى والنزوة، كما أنها لا تحل بالإدراك وحده الفاقد لعنصر الإخلاص الذي يعتبر الموجه الحقيقي إلى الخير والعاصم من الشر، وبذلك نبقى نتأرجح بين جلد الفاجر وعجز التقي اللذين استعاذ منهما سيدنا عمر رضي الله عنه .. ذلك أنه لا بد لنا من الهدى والفرقان معا.. ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هـدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) (البقرة:185) ولعل في رواية علي رضي الله عنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القرآن فيها كل البصائر لما نقول:
روى الترمذي بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه في الجنة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت: يا رسول الله وما المخرج؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هـو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.. من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هـدى إلى صراط مستقيم ) [ ص: 167 ] إن توفر عنصري الإخلاص والإدراك سوف يتحققان من تدبر آيات القرآن الكريم والتعرف على السنن التي شرعها لحكم الحياة والأحياء، ومن الاستجابة كذلك بممارسة الإسلام عقيدة وعملا وعبادة وسلوكا.
ولعل صوم شهر رمضان هـو الموسم الذي يربي عنصر الإخلاص، فـ ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.. يدع شهوته وطعامه وشرابه لأجلي ) .. وتلاوة القرآن وتدبر آياته والتبصر في قوانينه وسنن منهجه، هـو المخرج من الفتن التي عميت فيها المسالك.. إنها ( ...كقطع الليل المظلم يمسي الرجل فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. ) فتن تدع الحكيم حيران.. إنه شهر القرآن، شهر نزوله وشهر مدارسته..
فهل يكون رمضان فرصة للعودة إلى القرآن، دستور الثقافة الإسلامية، والسبيل الوحيد للخروج من المأزق، من قطع الليل المظلم حيث تكثر الرايات العمية في الوقت الذي أصبح معه تمزقنا الثقافي وعنتنا الفكري والسياسي لا يخفى على أحد، لقد افتقدنا الالتزام بقيمه الثابتة بعد هـذه الحيدة وهذا العقوق وهذا الهجر الذي نعيشه ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هـذا القرآن مهجورا.. ) (الفرقان: 30) ، وأية أمة من الأمم تمتلك من القيم الثابتة المجمع عليها ما يمتلك المسلمون؟!! [ ص: 168 ]