المراجعة.. والتدبر
إنه شهر اعتكاف.. وليس الاعتكاف إلا عكوف على الذات لمراجعتها وتجديد الجوانب الشائخة والهرمة فيها، والنظر في التقصير وبناء الذات طبقا للمنهج الإسلامي، ووضع اليد على الأخطاء ودراسة أسبابها ومعالجة آثارها في النفس والمجتمع. إنه شهر الاعتكاف والتدبر. قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأوخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.. )
وبعد..
فهل يكون شهر رمضان موسما للعودة إلى الله، وفرصة لمراجعة الحساب والتقصير في جنب الله على أكثر من صعيد؟
هل يكون فرصة للظالمين ليعيدوا النظر في سلوكهم ويفكروا في مصيرهم ويعتبروا بغيرهم، حيث يأتون يوم القيامة شاخصة أبصارهم ترهقهم ذلة، مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هـواء، ويدركون أن الله يمهل ولا يهمل فيتداركوا الأمر قبل فوات الأوان؟ ذلك أن دعوة المظلوم لا ترد وليس بينها وبين الله حجاب، وأن الله سينتصر للمظلوم ولو بعد حين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: المظلوم والصائم والحاكم العادل ) . فكيف إذا كان مظلوما صائما؟!! فالرجوع إلى الحق والعدل ليس جبنا ولا ذلة، وإنما هـو بطولة وشرف وكرامة..
وفرصة للمسرفين على أنفسهم القانطين من رحمة الله، المعذبين بالأخطاء [ ص: 170 ] والآثام لسماع كلام الله: ( .. لا تقنطوا من رحمة الله.. ) (الزمر: 53) بقلوب واعية فيعودوا إلى الجادة ويلتزموا الحياة الإسلامية النظيفة..
وفرصة للعاملين في الحقل الإسلامي ليوقفوا التراشق فيما بينهم وليعيدوا النظر بمهمتهم، ويدركوا أنهم يحملون أشرف دعوة ويعملون لأنبل غاية، فيوطنوا أنفسهم، ويعاهدوا أن يكون بمستوى إسلامهم وعصرهم فيتخلص العمل للإسلام من التمحور حول النفس والطواف حول الذات.. فما عند الله خير وأبقى.
وفرصة للذين يحاولون توظيف الإسلام لمصالحهم الشخصية ويبيعون أنفسهم وإسلامهم في السوق السياسية الرخيصة، فينقلبون إلى أدوات تحرك وليس لها من الأمر شيء، فيدركون أن شرعية الوسائل من شرعية الغايات فيعيشون للآخرة.. وأنهم مهما حاولوا تبرير سلوكهم أمام الناس فإن الله مطلع عليهم، وسوف يوقفهم ويسألهم، وأن هـذا الدين محفوظ بحفظ الله له، وسوف ينفي عنه الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد..
وفرصة للدعاة إلى الله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ليعيدوا النظر في وسائلهم وطرائقهم، ذلك أن دعوة الناس إلى الإسلام إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وليست بالإكراه، فمن كان آمرا بالمعروف فليكن أمره بمعروف، وليستمعوا إلى قوله تعالى: ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (آل عمران: 159) .
وفرصة للفرد المسلم ليعيد النظر في موقعه الذي هـو فيه الآن.. ما يقدم هـذا الموقع للإسلام من فائدة، ويدرك أن الطاعة في الإسلام مبصرة وأن المسئولية فردية، وأن لا يرتكس إلى المفهوم الحزبي الجاهلي فينصر أخاه ظالما أو مظلوما!! بل يلتزم المفهوم الإسلامي بأن ينتصر للمظلوم برد ظلامته، وينتصر للظالم بالأخذ على يديه.. فالتعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان. فتسود المناصحة الصف المسلم، ويفوز بالنصر في الدنيا والثواب في الآخرة.
وفرصة لبعض القادة والزعماء والحكام ليكونوا عند أمل أمتهم فيوقفوا الخصومات والحروب التي لا تدفع ثمنها إلا الدماء المسلمة، ويستشعروا [ ص: 171 ] المسئولية المنوطة بهم، فلا يفرطوا من الأرض الإسلامية، فيجمعوا أمرهم ويلتزموا قيمهم ويواجهوا عدوهم صفا واحدا، وتتوقف من حياة الأمة الإسلامية مرحلة الشعارات والفلسفات المهزومة لتبدأ عمليات الإنقاذ والمواجهة الحقيقية..
وفرصة للأغنياء والمترفين لمراجعة الحساب والحس بحاجة الفقراء، وشكر النعمة بوضعها حيث أراد المنعم، فيساهموا في إنقاذ الجائعين في العالم الإسلامي ويعلموا أن إيمانهم معرض للخطر إذا لم يطعموا الجائع، ويكسوا العاري، ويغيثوا الملهوف..
وفرصة لكل مسلم ليدرك أن التساهل بالصغائر يؤدي إلى الكبائر، فيوقف الغيبة والنميمة وسوء الظن، هـذه العلل النفسية التي ابتلينا بها حتى استسهلناها، ويرسم لنفسه منهاجا يلتزم به ويتدرب من خلاله على المعاني الإسلامية لتصبح جزءا من حياته اليومية، وبذلك يكون الفرد الرباني الذي يصطبغ سلوكه بالإسلام فيمتلك اليد المسلمة والرجل المسلمة والعين المسلمة والأذن المسلمة بحيث تتحرك جوارحه جميعها الحركة الإسلامية التي شرعها الله لمن يحبه، ذلك أن رمضان فرصة للاستزادة من النوافل قال تعالى: ( ما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها.. ) اللهم بارك لنا في رمضان وأعنـا فيه على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.. واجعلنا من عتقائه من النار..
[رمضان :1403هـ - حزيران (يونيه) :1984م] [ ص: 172 ]