الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              أدب الاختلاف في الإسلام

              الدكتور / طه جابر فياض العلواني

              رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك

              ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف تلك الرسالة العلمية الرائعة التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك ، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظرا لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع الذي اختلف في ظله سلف هـذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد :

              ( ... سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هـو أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه [ ص: 120 ] بالعون على شكره والزيادة من إحسانه ... ثم يقول: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك - إن شاء الله تعالى - ووقع مني بالموقع الذي نحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له ) .

              ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته موردا أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبينا أن كثيرا من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبين أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: (ومع ذلك - حمد الله - عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمة الله وغفر له وزاه بأحسن ما عمله ) ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر - والقضاء بشاهد ويمين - ومؤخر الصداق لا يقبض إلا عند الفراق - وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء ... وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة [ ص: 121 ] ( ... وقد تركت أشياء كثيرة من أشابه هـذا، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن معافون والحمد لله، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله ) [1] .

              إن هـناك كثيرا من المناظرات العلمية الدقيقة المليئة بأدب الاختلاف حفلت بها كتب التراجم والتاريخ والمناظرات ونحوها، ولا يكاد المرء يفتقد (أدب الاختلاف ) بين أهل العلم إلا بعد شيوع التقليد وما رافقه من تعصب وتعثر في سلوك أهل العلم، نظراتهم إلى العلم نفسه، ولا سيما بعد أن خلت الساحة من أمثال العلماء الذين يقول فيهم الإمام الغزالي : (وكان قد بقي من علماء التابعين من هـو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هـربوا وأعرضوا ) فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، وحل محل هـذا الرعيل المبارك طلاب الدنيا بالدين، وحل الذي هـو أدنى مكان الذي خير، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: (فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة [ ص: 122 ] عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشر أبوا بطلب العلم توصلا إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله ) [2] .

              لقد صور الإمام الغزالي رحمه الله واقع العلماء بعد أن غدت الدنيا مطلبهم، وصار الدين الطريق الوحيد الموصل إلى أبواب الولاة، كما أصبحت الرغبة في كسب ودهم هـي التي تدفع فئات ممن تزيوا بزي العلماء إلى طلب العلم.

              إن الإمام مالكا عليه رحمة الله يقول: (لا يؤخذ هـذا العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هـوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحمل ويحدث به ) [3]

              . وقال أيضا: (إن هـذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هـذه الأساطين [ ص: 123 ] (وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو اؤ تمن على بيت مال كان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هـذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه ) [4] . ورجال تلك صفاتهم لم يكن ليقع بينهم كبير اختلاف، وإن وقع فمن أجل الحق، ولن يدس الهوى أنفه في خلاف لا يدعو إليه غير الحق ... وحتى نؤصل الآداب التي سار على نهجها كرام علمائنا، فنجعل منهم لنا القدوة الصالحة، وتكون خلالهم الكريمة تلك مثلا نحتذي به، نقدم نماذج من أدب الاختلاف بين كبار الأئمة من السلف الصالح رضوان الله عليهم.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية