من الزهري إلى الأيدز.. رحلة أربعمائة عام نقطعها في عام واحد والمعرفة بالسنن - إلى جانب ما ذكرناه - توفر لنا الوقت، وتجعلنا أقدر على التحكم فيه، وهذا ما يعجل مسيرة الحضارة، ويدفعها للتسارع يوما بعد يوم.. ولعل سيرة مرضى الزهري والأيدز خير شاهد على هـذه الميزة التي يتيحها لنا فهمنا العميق للسنن الكونية.. فمن المعروف أن تاريخ الداء الجنسي المعروف باسم (الزهري) أو ( الأفرنجي ) قد ( بدأ في أوروبا حوالي عام 1493م في عهد الملك الفرنسي ( كارل الثامن ) الذي اشتهر بنزواته الطائشة.. فقد غزا هـذا الملك الرعديد إيطاليا بموكب من الجنود المرتزقة، يجر خلفه ذيلا يضم أكثر من خمسمائة داعرة اصطحبن للمتعة والإيناس والليالي الحمراء.. وفي روما اجتمع هـذا الملك ( الذي يعتقد أنه من أوائل الذين أصيبوا بالزهري ) مع رجل طائش مثله هـو ( البابا اسكندر السادس ) الذي أصيب بالزهري كصاحبه وهناك فعل الاثنان الأفاعيل، مع من كان معهما من الجنود والغانيات.. وعندما قفل الملك راجعا من رحلته المشئومة بعد أقل [ ص: 42 ] من عام واحد كان قد أهدى أوروبا كلها مرض الزهري [1]
وما يستوقفنا من هـذه القصة المخزية أن الزهري استمر ما يزيد عن أربعمائة عام يفتك بالزناة والشاذين والمنحرفين، يشوه أجسادهم، ويزهق أرواحهم، قبل أن يتمكن العلماء من معرفة الجرثومة التي تسببه ( اللولبية الشاحبة ) وقبل أن يتمكن العالم (فلمنغ) من اكتشـاف عقار البنسلين ( 1928م ) القادر على قتل جرثومته واليوم.. نجد أن داءا جنسيا آخر قد ظهر ليعيد إلى الأذهان قصة الزهري، ولكن على وتيرة مختلفة.. ففي عام 1981م ظهر فجأة الداء الجنسي المعروف باسم الأيدز ( أو داء نقصان المناعة المكتسبة ) الذي انتشر كالوباء انتشارا مفزعا في أوساط الشاذين جنسيا بصورة خاصة، وأوساط المدمنين على المخدرات، ولا سيما منها التي تؤخذ عن طريق الحقن [2]
، وكما كان الانحلال الأخلاقي وراء ظهور الإيدز وانتشاره، إلا أن الفارق الجوهري ما بين سيرة الزهري وسيرة الإيدز أن العلماء في نحو عام واحد استطاعوا فضح أسرار الأيدز، وعزل الفيروس المسبب له، بينما استغرق تحقيق ذلك أربعة قرون في حال الزهري.. وحين نبحث عن السر في تحقيق هـذا الإنجاز العلمي الرائع فإننا نجده يرجع إلى ما أصبح اليوم في حوزة العلماء من معرفة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، ومنها السنن المتعلقة بالمرض، فإن هـذه المعرفة هـي التي مكنت العلماء من التعجيل بفك رموز الأيدز، واختزال الزمن من أربعمائة عام إلى عام واحد.. وهذه دون ريب نقلة نوعية متميزة تستحق منا وقفة تأمل طويلة. [ ص: 43 ] وفي الحقيقة فإن هـذا المثال الذي سقناه من عالم الطب يعبر عن سمة أصبحت بارزة من سمات العصر الحاضر، فقد أصبح العلماء اليوم - بفضل تعمقهم بفهم السنن الكونية - قادرين على كشف أسرار الاكتشافات الجديدة بصورة أسرع بكثير مما كان يجري في الماضي، كما أتاح لهم فهمهم للسنن التعجيل في تحويل أفكارهم النظرية إلى تطبيقات عملية ( وقد أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق في ميدان الإنتاج منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم فتبين لهم ما يلي:
* احتاج الإنسان إلى 112 سنة ( 1727 - 1839 م ) لتطبيق المبدأ النظري الذي يبنى عليه التصوير الفوتوغرافي .
* واحتاج إلى 56 سنة ( 1820 - 1876 م ) لكي يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون.
* وإلى 35 سنة ( 1867 - 1902 م ) لظهور الاتصال اللاسلكي .
* وإلى 15 سنة ( 1925 - 1940 م ) للرادار .
* و12 سنة ( 1922 - 1934) للتلفزيون.
* و6 سنوات ( 1939 - 1945 م ) للقنبلة الذرية.
* و5 سنوات ( 1948 - 1953 م ) للترانزستور .
* و3 سنوات ( 1959 - 1961 م ) لإنتاج الدوائر المتكاملة [3]
. [ ص: 44 ] وهكذا يبدو جليا أننا نقترب بخطى حثيثة من فهم العالم المحيط بنا، وتسخيره بصورة أكثر فعالية، وذلك نتيجة كشفنا للمزيد من السنن، وتعمقنا أكثر فأكثر في فهم هـذه السنن، وهذا ما يزيد إيماننا بأهمية البحث في السنن، خاصة وأن التعامل مع العالم المحيط بنا لا يمكن أن يتم على وجهه الصحيح إلا من خلال معرفتنا اليقينية بالسنن التي تتحكم فيه؛ لأن تعاملنا مع هـذا العالم بغير هـذه المعرفة يعد ضربا من العبث، الذي لا يمكن أن يحقق لنا الأهداف، التي نصبو إليها..