الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق

الدكتور / أحمد محمد كنعان

سنة الله في الخلق بين القرآن والسيرة .. والملاحظ من خلال السياق القرآني كثرة الآيات التي تحض المؤمنين على السير في الأرض، والتفكر في آيات الله المبثوثة في الوجود، حتى يلتفت العقل إلى النظام البديع الذي يحكم الأشياء، ويوجه الأحداث، فيستنبط من ذلك السنن، التي تتحكم في حركة الحياة وتطورها، ويعمل من ثم على تسخيرها في عمارة الأرض، وبناء الحضارة الإنسانية المنشودة.

وقد خصص القرآن الكريم جانبا كبيرا من سوره لعرض قصص الأمم الغابرة، ليلفت انتباهنا إلى ما آلت إليه تلك الأمم، حين سلكت سبيلا معينا، وليلفت الانتباه كذلك إلى أن المجتمعات البشرية محكومة بنوع من السنن، التي تضبط حركتها وتطورها، وتحدد مصيرها آخر الأمر.

وقد كان لهذا التركيز القرآني على أهمية النظر في الآيات، أو السنن التي يخضع الكون لها أثر عميق في نشأة الحضارة الإسلامية، ونموها واستمرارها، وتميزها [ ص: 45 ] عن سائر الحضارات التي سبقتها.. فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم، ولا معرفة بالسنن، التي تتحكم في حياة الأفراد والمجتمعات، جاء القرآن الكريم، فقدم لهم تلخيصا وافيا دقيقا عن تلك السنن، حتى إذا فهموها وأخذوا بها في حياتهم، تغيرت نظرتهم للكون والحياة تغيرا جذريا، ولم يلبثوا أن أصبحوا أمة واحدة، يشد بعضها بعضا كالبنيان المرصوص.. كما اكتسبت الأمة الإسلامية - إلى جانب ذلك - قدرة باهرة على تسخير ما في أيديها (على قلة ما كان في أيديها) ، فاستطاعت بفضل الله أن تستفيد من ذلك في الانطلاق صوب (الآخرين) حاملة إليهم نور الهداية والرحمة، حتى انتشرت راية التوحيد خفاقة في أرجاء المعمورة.. وقد تم هـذا الفتح المبين في سنوات معدودات لا تعد شيئا في عمر التاريخ

* فما الذي تغير بعد ذلك حتى عاد المسلمون فانتكسوا؟

* وكيف حط التخلف رحاله في ديارهم، بعد ذلك التاريخ المجيد ؟

للإجابة عن هـذين السؤالين، لا بد أن نعترف ابتداء، بأن العوامل التي أدت إلى هـذه النتيجة المأساوية عديدة، لا يكاد يحصرها عد. ولكننا مع هـذا يمكن أن نردها جميعا إلى علة أولية، تولدت عنها العلل اللاحقة جميعا.. ونعني بها (الغفلة عن منهج الله عز وجل ) ، وأهم ما تعنيه هـذه الغفلة: تجاهل السنن الربانية، التي تحكم حياة الأفراد والأمم، وحياة كل شيء في هـذا الوجود، والجهل كذلك بأن أي اتصال فعال مع الحياة، لا يمكن أن يتم على تمامه بغير الإيمان بهذه الحقيقة، وفهم هـذه السنن، وتسخيرها على الوجه الصحيح.

وإن من الظواهر التي باتت بارزة في حياتنا نحن المسلمين اليوم.. ضعف اهتمامنا بمسألة السير في الأرض، والبحث والتنقيب عن السنن، التي يمكن أن تعيننا في تصريف شئونا المختلفة، وتذلل أمامنا الصعاب، [ ص: 46 ] وتيسر لنا أمر عمارة الأرض، وفق المنهج الذي يأمرنا إسلامنا بإقامته في واقع الحياة.

ولعلنا لا نعدو الحقيقة حين نقرر أن مفهوم (السنة) نفسه قد فقد مكانته في مناهجنا الفكرية والعلمية، وراجت بيننا من ثم مقولة: ( إن على المؤمن في هـذه الحياة أن يعمل، ويخلص النية في عمله، وليس عليه أن ينظر في النتائج بعد ذلك؛ لأن النتائج قدر محتوم من الله عز وجل ، ولا يد للإنسان فيه) .

أي أنه حدث في تصور كثير منا نوع من الفصل بين الأسباب والنتائج.. علما بأن هـذه النظرة القاصرة إلى المسألة، تنفي عن الجهد البشري المسئولية في صنع النتائج، وتوهم الإنسان في الوقت نفسه، بأن لديه نوعا من الحصانة تجاه الأخطاء، التي يرتكبها مادام قد فعلها عن نية صادقة

بل إن مثل هـذه النظرة لتجعل المرء يعتقد بتميزه عن بقية خلق الله، مما يوقعه في الخطأ، الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبل، حين قالوا: ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) (المائدة: 18) فقد ادعوا لأنفسهم مكانة عند الله ليست لهم، وحسبوا أنه سبحانه عفا عنهم عفوا أبديا، ظنا منهم بأن مجرد إيمانهم القلبي، أو مجرد انتسابهم إلى دين سماوي، سوف يشفع لهم عند بارئهم، وهذه هـي حال كثير من المسلمين اليوم والحق.. أن القضية ليست كذلك أبدا، إذ لا استثناء لقوم دون قوم أمام شرعة الله أو سننه، وهذا ما أشار إليه بوضوح تام حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين قال: ( يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وأباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) [1]

فالأصل الذي تقوم الأعمال على أساسه هـو التقوى، التي تعني: إخلاص النية، والأخذ بالأسباب، أو بالسنن، [ ص: 47 ] التي جعلها الله أبوابا لا تتم الأعمال الصالحة إلا من خلالها.. فالصلاح في الأعمال لا يكون بمجرد الإخلاص في النية، بل لا بد للعمل أن يوافق سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، حتى يكون صالحا بحق.. فإذا ما جمعنا إلى هـذه الحقيقة حقيقة أخرى، وهي غموض النظر - عند كثير من المسلمين - إلى مسألة السنن، وعلاقتها بالجهد البشري، فإننا نكون قد حددنا بعض معالم أزمتنا الحضارية الراهنة:

فمن جهة.. نجد التصور السائد اليوم بين كثير من المسلمين يقوم على الفصل ما بين الأعمال والنتائج، ومن جهة أخرى نجد أن الأعمال نفسها تقوم على غير هـدي من السنن.. علما بأن فصل النتيجة عن العمل، أو فصل المسبب عن السبب يناقض الفكر الإسلامي الأصيل.

وقد تناول الإمام العلامة ابن القيم الجوزية هـذه القضية بشيء من التفصيل في كتابه الأشهر (زاد المعاد) عندما كان يبحث في الأحاديث النبوية التي تحض على التداوي من المرض، فقال رحمة الله عليه: (..فقد تضمنت هـذه الأحاديث الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافي دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل، الذي حقيقته اعتماد القلب على الله، في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هـذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا ) [2] أ هـ.. صحيح أن النتائج قدر من قدر الله عز وجل ، إلا أن مشيئته سبحانه قد اقتضت ارتباط النتائج بأسبابها، وهذا الارتباط أيضا قدر [ ص: 48 ] من قدر الله عز وجل ، نجد مصداق هـذا في قوله تعالى: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) (الأنفال: 17 ) فقد أثبت الرمي له، وهو السبب واحتفظ لنفسه سبحانه بالنتيجة، لكي يلفت العقل البشري إلى طلاقة القدرة الإلهية، لكن هـذا لا يعني حصول النتيجة من غير رمي.. بل إن الرمي، ونتيجة الرمي، وارتباط النتيجة بالرمي.. كل أولئك قدر من قدر الله سبحانه.

وحين يستيقن العقل البشري هـذه الحقيقة، ويتعمق في فهم سنن الله في الخلق، يصبح أقدر على فهم العالم، الذي يعيش فيه، كما يصبح أقدر على تسخير الكون في صالحه، وإن من يراقب الأوضاع المختلفة في أرجاء العالم، يدرك دونما عناء كبير، السبب الحقيقي، الذي جعل الدول المتطورة في مركز السيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى، هـذه السيطرة التي يظن معظمنا أنها ترجع إلى امتلاك تلك الدول قوى عسكرية ضاربة، وموارد اقتصادية غنية.. وهو ظن مبني على فهم خاطئ للتاريخ والواقع [3]

، إذ كيف استطاعت تلك الدول أصلا، أن تحصل على تلك القوى، التي بين أيديها؟ أبالقوة وحدها، أم أن للعلم دورا في هـذه القضية؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأمريكية مثلا قبل قرنين من الزمان مجموعة من المستعمرات الإنجليزية المتناثرة [4]

؟ فأين هـي اليوم؟ ألم تصبح إحدى أكبر قوتين في العالم؟

ومثال آخر.. ألم تخرج كل من اليابان وألمانيا من الحرب العالمية الثانية مطحونتين، لا حول لهما ولا قوة؟ فأين هـما اليوم؟ ألم تصبحا في طليعة الدول القوية، التي بات العالم كله يحسب حسابهما مع أنهما منزوعتا السلاح؟ [ ص: 49 ] فالسر إذن ليس في امتلاك القوة العسكرية، أو الاقتصادية، أو غيرهما، (مع إيماننا بضرورة العمل على امتلاك مثل هـذه القوى) ، وإنما يكمن السر ابتداء في القدرة على تسخير القوى المتاحة، فعلينا أن نتصرف في حدود ما نملك فعلا، لا أن نحلم بما هـو خارج عن أيدينا، لأن مثل هـذه الأحلام لا تثمر في النهاية إلا الحسرة والندامة.

وحين نتصرف فيما نملك وفق السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق، فإننا بهذا نستثمر الطاقات المتاحة على أحسن وجه، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كانت سيرته العطرة حافلة بالشواهد الناصعة على أخذه بالأسباب، وتجنيده للطاقات البشرية والمادية والمعنوية خير تجنيد، مما كان له تأثير كبير في إغناء الجهاد النبوي، الذي أثمر في غضون سنوات قليلة، ما لم تثمر مثله محاولات بشرية أخرى، استغرقت مئات السنين.

ونريد هـنا أن نقف عند شاهد واحد من تلك الشواهد في سيرته صلى الله عليه وسلم ، وهو حادث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، لنرى مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالأسباب.. ويرجع سبب اختيارنا للهجرة دون غيرها إلى أن أمر هـجرته صلى الله عليه وسلم كان يتعلق به تعلقا مباشرا، وقد كان صلى الله عليه وسلم موقنا بنصر الله ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) (المائدة: 40) . كما كان واثقا من حماية الله له، ( والله يعصمك من الناس ) (المائدة: 67) . لكنه لم يركن إلى ذلك وحده، بل بذل غاية جهده في تهيئة الأسباب، التي رأى ضرورة تهيئتها لمثل تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر.. ولنستمع إلى السيدة عائشة رضي الله عنها ، تروي لنا التفاصيل.. قالت: ( كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي ببيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، والخروج من مكة ، من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها.. قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر ، [ ص: 50 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرج عني من عندك. فقال: يا رسول الله إنما هـما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة.. قالت: فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم : الصحبة.. قالت فوالله ما شعرت قط مثل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هـاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أريقط - وكان مشركا - يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.. ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر. فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج، أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار ثور (جبل بأسفل مكة) فدخلاه.. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه، حين فقدوه، مائة ناقة، لمن يرده عليهم.. وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى، فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه.. حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما) [5]

. فهل بعد هـذا الحرص من حرص؟

.. هـذا مع التذكير بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أغنى الناس عن مثل هـذا السلوك بما أنه مؤيد من الله عز وجل ، وموعود بالنصر والتمكين.. وهذا ما يدعونا لأن نكون حريصين كحرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالأسباب، والسير في الأرض، لكشف السنن التي بتسخيرها يمكن أن نحقق الأهداف التي نسعى إليها. [ ص: 51 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية