الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ب – الإنسان:

.. ويقدم لنا القرآن الكريم أدلة عديدة، تدل على أن دعوة التغيير تبدأ عادة على يدي رجل فرد، وبعد ذلك يأخذ الناس بالالتفات حول هـذا الرجل صاحب الدعوة، ليعمل هـو وهم على إحداث التغيير المنشود.

ومع أن هـذه هـي القاعدة في التغيير، إلا أننا نلاحظ – من خلال الشواهد القرآنية نفسها – وجود استثناءات لهذه القاعدة، ومن ذلك مثلا ما نلمسه في قصة أصحاب القرية التي ورد ذكرها في سورة يس: ( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ) (يس: 13 – 14) فقد أرسل الله عز وجل إلى أهل تلك القرية ثلاثة من رسله، ولكن القوم كذبوهم وردوهم ردا قبيحا، ولم يستجيبوا لدعوتهم.. وبينما هـم يجادلون رسل الله جاءهم رجل.. رجل نكرة، لكنه رجل صالح: ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) (يس: 20 – 21) واستمر الرجل يدعو القوم إلى الإيمان، ويرغبهم فيه، ويحذرهم من عذاب الله، الذي يتربص بهم، ويبين لهم ما هـم فيه من ضلالة، ولكنهم لم يسمعوا له، ولم يستجيبوا.. ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوا الرجل أن قتلوه، وانتهى أمره في لحظات، كما بدأ في لحظات، لكن حكاية القرية لم تنته عند هـذا الحد، بل تنزل أمر الله ليغير حال القرية عن بكرة أبيها: ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هـم خامدون ) ( يس 28 – 29 ) [ ص: 154 ] فكأن دعوة الرجل الصالح، كانت الإنذار الأخير من رب العالمين لأهل تلك القرية، التي استؤصلت من على وجه الأرض، وباستئصالها تم التغيير المنشود.

ولقد يعترض معترض هـنا فيقول: وأي تغيير هـذا الذي انتهى بالدمار؟

فنقول: هـو تغيير لا شك في ذلك، هـو تغيير بالمعنى الأشمل للتغيير، فمادام أهل القرية قد رفضوا دعوة الهداية والرشاد، وأصروا على كفرهم، وعلى انحرافهم عن الفطرة الربانية – على الرغم من الدعوات المتكررة، التي جاءتهم – فقد أصبحوا بموقفهم ذاك يمثلون أزمة، أو داءا مزمنا بالنسبة للمجتمع البشري [1] ، ومثل هـذا الداء المزمن لا ينفع فيه غير الاستئصال الجراحي.. وهذا ما كان فعلا..

وليس هـذا المثال الذي قدمناه فريدا في التاريخ البشري، ففي القرآن الكريم أمثلة كثيرة نطالعها في الآيات، التي تحدثت عن قصص الرسل، الذين لم يؤمن معهم أحد من أقوامهم، أو آمن معهم نفر قليل، فانتهى أمر تلك الأقوام إلى الهلاك ( قوم عاد، قوم نوح، قوم ثمود، قوم لوط.. وغيرهم كثير ) .

إذن كيف يكون التغيير الآخر، التغيير الذي لا ينتهي بالهلاك، بل يتوج بنهوض الأمة إلى آفاق الحضارة الإنسانية السامية؟

وللجواب عن هـذا السؤال، نعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم، لنجد أن مثل هـذا التغيير الطموح لا يمكن أن يتحقق، أو يكتب له النجاح، ما لم تستجب له نفوس الغالبية من الناس؛ لأن المجتمع – من هـذه الوجهة – يشكل في مجموعه جسدا واحدا، لا يصلح إلا أن تصلح معظم أعضائه، ولقد أخبرنا [ ص: 155 ] القرآن الكريم أن أنبياء الله – عليهم السلام – كانوا دوما يتوجهون بدعواتهم إلى أفراد المجتمع كافة بلا تمييز، من أجل هـذه الغاية أملا في كسب العدد الكافي منهم إلى صف الدعوة؛ لأن هـذا العدد أمر لازم حتى يتغير حال المجتمع.

وربما كانت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هـي الدعوة الوحيدة، التي استطاعت أن تحل المعادلة الصعبة، ونعني بها كسب العدد الكافي من الناس إلى صفها، في وقت قياسي، على الرغم من العوائق الهائلة التي اعترضت سبيلها.. فقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يقارب ثلاثة عشر عاما في مكة ، يدعو قومه للإيمان بدعوة التوحيد، باذلا في ذلك أقصى جهده، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ييأس، ولم يقنط من رحمة الله، وتأييده ونصره، فواصل جهاده، حتى قيض الله عز وجل رجالا أتوا في موسم الحج من يثرب إلى مكة، فالتقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا، ثم عادوا إلى قومهم يدعونهم للإيمان بالدعوة الجديدة، فوجدوا منهم قبولا حسنا، على النقيض مما كان في مكة التي وقف سادتها حائلا عنيدا بين الناس والدعوة.

وهكذا فشا أمر الإسلام في يثرب، وتهيأ المجتمع للمرحلة التالية، فأذن الله لرسوله بالهجرة، فهاجر هـو وأصحابه من مكة إلى يثرب، (التي تغير اسمها منذ ذلك الوقت فأصبحت تدعى المدينة، وكان هـذا التغيير أحد بوادر التغيير في المجتمع الوليد) وواصل المؤمنون في المدينة جهادهم ودعوتهم، حتى آمن بالدعوة خلق كثير، وترسخت دعائم الإسلام، وتحول مجتمع المدينة من الكفر إلى الإيمان، وبات الإسلام هـو صاحب الكلمة في المجتمع، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم هـو القائد والحاكم في هـذه الدولة الوليدة، التي كانت بحق نواة الحضارة الإسلامية، التي بدأت أنوارها تشع على الدنيا منذ ذلك التاريخ.. [ ص: 156 ] ومنذ أن تم التغيير في مجتمع المدينة ، وتبعه التغيير في مجتمع مكة بعد الفتح ، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا.. منذ ذلك الحين بدأت معالم التغيير الحضري تظهر وتنتشر في أرجاء الأرض.. ومما لا ريب فيه أن هـذا الفتح المؤزر، وهذه الثمرة الطيبة لم تكن لتتحقق، لولا ما توافر للدعوة من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أعطوا أقصى ما يستطيعون من أنفسهم وأموالهم وأرواحهم..

.. فبمثل هـؤلاء الرجال يتم التغيير.. رجال لم يكتفوا بالالتفاف حول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ، بل جاهدوا أنفسهم حتى تتغير وتتلاءم وطبيعة هـذه الدعوة، وهذا ما حصل فعلا، فقد كان نطق الواحد منهم بالشهادتين بمثابة ولادة جديدة له، فكان على أعتاب الدخول في الإسلام، يخلع عنه كل ماضيه، ليرتدي حلة الإسلام، التي تصوغ نفسه صياغة ربانية تنسجم مع الفطرة، وتتلاءم وطبيعة الدعوة الجديدة.. وبمثل هـذا التغيير، الذي حصل في نفوس المسلمين الأوائل، حصل التغيير الحضاري، الذي لم تشهد البشرية مثيلا له، لا قبله ولا بعده.. والسبب أن هـذا التغيير يساير السنة التي فطر الله عليها أمور خلقه، والتي بينتها الآية الكريمة في قوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: 11) ، فعندما تغيرت تلك النفوس بالإيمان، غير الله ما بها من جاهلية، وخلصها من ربقة القبلية الضيقة الشقية، إلى آفاق الأمة المتوحدة المتكاملة، ونقلها من مستنقع التباهي بالأنساب والأحساب، إلى روضة الأخلاق الإنسانية الوارفة

***


التالي السابق


الخدمات العلمية