خصوصية السنن: هذا، ولكل سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه خصوصيتها المتفردة، ونعني بها أن السنة التي يتم بها أمر من الأمور هـي واحدة لا تقبل التعدد، فكل سبب يولد النتيجة المقدرة له وحده، ولا تنفصل النتائج عن أسبابها، وكل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق كذلك في الأسباب والنتائج، أي يلزم أن يكون لها سنة مخصوصة تتحكم فيها، ومثال هـذا ما ذكرناه من خضوع العناصر الكيميائية المختلفة للسنة، أو القانون، الذي اكتشفه العالم (دالتن) فهذا القانون هـو الذي يحكم تفاعل العناصر الكيميائية بعضها مع بعض، إذ لا يتحد عنصر مع عنصر آخر إلا وفق نسبة محددة، وما لم يتوافر العنصران بالنسبة المطلوبة فإنهما لا يتحدان معا، ولا نحصل منهما على المركب الذي نريد.. وكذلك هـو كل أمر في هـذا الوجود، فكل أمر خاضع لسنة محددة لا يتم إلا بها، ولا يمكن أن يتم بغيرها من السنن.. فتركيب الماء بمواصفاته المعروفة، والذي رأينا في مثال سابق أنه يتم من اتحاد الهيدروجين والأكسجين، لا يمكن أبدا أن يتم من اتحاد الأكسجين بالهيليوم مثلا، مع العلم بأن الهيليوم هـو أقرب العناصر الكيميائية إلى الهيدروجين من حيث البنية الذرية.
ويمكن أن نسوق أمثلة عديدة على أن سنة مخصوصة، لا تتم إلا من خلال شروط مخصوصة وعلى أن كل أمر في هـذا الوجود يخضع لسنة مخصوصة كذلك.. وهذه الحقيقة يجب أن تظل ماثلة في أذهاننا كلما أردنا أن نحقق هـدفا من الأهداف، أو القيام بعمل من الأعمال فإن الخطوة الأولى في سبيل ذلك، هـي أن نتبين السنة الخاصة بهذا العمل أو ذاك الهدف؛ لأن القيام بأي عمل دون معرفة بالسنة التي [ ص: 66 ] يخضع لها، يعد ضربا من العبث، وإهدارا للطاقة.
ويمكن أن نشبه السنة بالخط المستقيم.. فمن المعروف أن الخط المستقيم هـو أقصر خط يصل بين نقطتين ثابتتين، فلو كان لدينا مثلا النقطتان أ، ب فإننا لا يمكن أن نصل بينهما إلا بخط مستقيم واحد هـو أ ب:
أ x _________________ x ب
وأما بقية الخطوط التي تمر بها هـاتين النقطتين، فإن كانت مستقيمة انطبقت على الخط الأول، وكانت مستقيمة مثله، أو كانت هـي هـو؛ لأنها جميعا تحقق صفة الاستقامة، وأما إن كانت الخطوط متعرجة فإنها تكون قد خرجت عن الاستقامة، ولم تعد تحقق الصفة المطلوبة.. وهكذا هـي سنن الله في الخلق، فكل سنة تتعلق بسبب ونتيجة، كما يتعلق الخط المستقيم بالنقطتين ( أ، ب ) وكما أنه لا يوجد سوى خط مستقيم واحد يصل ما بين هـاتين النقطتين، فكذلك لا توجد سوى سنة واحدة تتعلق بسبب مخصوص وبنتيجة مخصوصة. وهذه الحقيقة تقدم لنا منطلقا هـاما جدا للنظر إلى مشكلاتنا، فمادام أن لكل أمر سنة مخصوصة لا يتم إلا من خلالها، فإن هـذا يعني ضرورة الاجتهاد في إصابة السنة، التي تحكم كل قضية من القضايا، التي تعترضنا؛ لأن إصابة السنة هـذه تحل لنا القضية من أساسها، وتغلق من ثم باب الاختلاف والنزاع.. وهذا ما سوف نفصل فيه - بإذن الله - عند الحديث عن علاقة السنن بالاجتهاد في الشريعة الإسلامية. [ ص: 67 ]