قهر الطبيعة
.. ومن ثم فإن اكتشاف الإنسان لسنة من سنن الله، وتسخيرها، ليس قهرا للطبيعة، كما يحلو للملحدين أن يصوروا هـذه القضية، إذ هـم يظنون أن حياة الإنسان فوق هـذه الأرض صراع متواصل، ومعركة لا تنتهي ضد عناصر الطبيعة.. وما ذلك إلا لإنكارهم وجود خالق لهذا الكون، وزعمهم بأن الطبيعة هـي التي خلقت نفسها بنفسها، وأنها هـي التي أوجدت الإنسان مصادفة، وألقت به في خضم هـذا الصراع المحموم وهذا هـو موقف المدنية المعاصرة اليوم ( بشطريها الغربي والشرقي ) إذ هـي تصور تحقيق إرادة الإنسان في صورة الانتصار على الطبيعة، وكأن الطبيعة عدو أو حاجز يحول بين الإنسان وبين تحقيق إرادته
في حين أن النظرة الإسلامية للقضية مختلفة تماما، فالمسلم يحس بالانتماء للطبيعة، بسبب إيمانه بأن قوانينها قدر من قدر الله عز وجل ، وسنة من سننه، التي سخرها لخدمة الإنسان، تفضلا منه وكرما.. ولهذا نجد العلاقة ما بين الإنسان المسلم، وبين الطبيعة، مطبوعة بطابع السلام والمحبة والانتماء، على النقيض من علاقة غير المسلم بالطبيعة والتي تتصف بصفة التحدي والقوة والتحايل.
وما تعبير (قهر الطبيعة) الذي يلوكه الملحدون بمناسبة وبغير مناسبة إلا تلاعب بالألفاظ، وتسمية للحقائق بغير أسمائها ( إن هـي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) (النجم: 23) .
والحق.. أن الله سبحانه خلق في الإنسان بموجب استعداده علما ضروريا بحقائق الأشياء، وسنن الله التي تحكمها، وما لها من قوانين النفع والضر، والواقع يؤيد هـذا الرأي، فقد ورث الجنس البشري، على مدى العصور، هـذا الاستعداد الفطري عن أبيهم آدم، الذي أودع الله في نفسه [ ص: 85 ] علم الأشياء، من غير تحديد ولا تعيين ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة: 31) ، وقد ظلوا بهذا الاستعداد يكشفون من أسرار هـذا الأرض وقوانين طبيعتها، ما مكن لهم من السيطرة عليها، وتحقيق قوله تعالى: ( إني جاعل في الأرض خليفة.. ) [1] ( البقرة: 30) فلا عجب إذن أن تنكشف سنة من سنن الله على يدي الإنسان، ما دام الله عز وجل هـو الذي قدر لها أن تنكشف على هـذه الصورة، ولا عجب كذلك أن يتم هـذا الكشف على يدي مؤمن أو كافر؛ لأنهما سواء بالنسبة لقدر الله، الذي يجريه على يدي من يشاء من خلقه، ونلمح ظلال هـذا المعنى في قوله تعالى: ( كلا نمد هـؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء: 20) .
.. والكون - كما قدمنا - زاخر بالخلائق، وهذه الخلائق تحكمها سنن لا تعد ولا تحصى، وما يزال معظم هـذه السنن في ذمة الغيب، وستبقى كذلك، حتى يحين الوقت، الذي قدره الله لانكشافها، وكأن الإنسان في هـذه الحال أمام كنز لا ينضب، ينهل منه ما يشاء، ولكن بشرط أن يبذل الجهد اللازم لاستخراج جواهر هـذا الكنز.. علما بأن حجب بعض السنن عن الإنسان لم يكن عبثا، بل كان لحكمة بالغة، أرادها الله عز وجل ، فإن هـذا الحجب يشكل نوعا من التحريض، الذي يدفع الإنسان دوما للبحث والتنقيب والمحاولة، مما يضفي على حياته مسحة من التغيير المستمر، الذي يجمل الحياة في ناظريه، ويدخل إلى نفسه البهجة والسعادة، كلما استطاع بجهده الواعي أن يكتشف جديدا، أو يتغلب على صعوبة من الصعوبات التي تعترض سبيله..
يقول الدكتور عماد الدين خليل حول هـذه النقطة: ( إننا إذا أردنا أن نعتمد مصطلحات المؤرخ الانكليزي ( آرنولد توبيني ) [2] ومقاييسه الحضارية [ ص: 86 ] فإننا سنرى في العالم تحديا مناسبا للإنسان، ليس معجزا ولا هـو دون الحد المطلوب البشري لإثارة التوتر للرد.. وكأن إرادة الله سبحانه شاءت أن تقف به عند هـذا الحد لكي يحقق خلافته في الأرض، فلم يشأ الله أن يمهد العالم تمهيدا كاملا، ويكشف للإنسان عن قوانينه وأسراره كلها؛ لأن هـذا نقيض عملية الاستخلاف، والتحضر والإبداع، التي تتطلب مقاومة وتحديا واستجابة ودأبا وإبداعا؛ ولأنه يقود الإنسان إلى مواقع السلبية المطلقة، ويسلمه إلى كسل لا تقره مهمة الإنسان على الأرض أساسا، كما أن الله سبحانه لم يشأ - من جهة أخرى - أن يجعل العالم على درجة من التعقيد والصعوبة الطبيعية، والانغلاق والغموض، بحيث يعجز الإنسان عن الاستجابة والإبداع، الأمر الذي ينافي أيضا مهمته الحضارية التي نيطت به لإعمار عالم غير مقفل ولا مسدود ) [3] .
فالقضية إذن ليست قهرا للطبيعة.. فالله عز وجل خلق هـذا الكون، واستخلفنا فيه، ومنحنا القدرة على تسخيره.. ولكنه سبحانه جعل شرطا للوصول إلى تسخير الكون من قبلنا نحن البشر، وهو أن نعرف ابتداء السنن التي يخضع لها، ثم نعمل على توفير الوسائل المناسبة، التي تعيننا على تسخير هـذه السنن، التي من طبيعتها أنها لا تعاند الإنسان , ولا ترفض الاستجابة له؛ ولأن الله عز وجل هـو الذي أمرها بهذا، وقدر لها هـذه المهمة.