2 - موقفنا من ( النصوص) :
.. وأما العقبة الثانية التي قد تحول بيننا، وبين التعرف إلى سنن الله في الخلق، فهي موقفنا من تفسير النصوص الشرعية غير السليم ( من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ) فنحن غالبا ما نقف عند حدود تفسير هـذه النصوص دون محاولة تجاوز هـذا الموقف إلى معرفة السنن التي تعين على تفسير النصوص.. ومما لا جدال فيه أن مثل هـذا الموقف ليس في صالح النص، وليس في صالح العقل أيضا؛ لأنه - من جهة - يجمد النص عند فهم واحد لا يتعداه على مر العصور، واختلاف الأحوال.. وهو - من جهة أخرى - يحد من ملكات العقل؛ لأنه يجعل فهم النص محصورا بعصر وجيل من السلطة القاهرة وهذا يثبط العقل، ويحجب عنه رؤية الآفاق الفسيحة المتعددة، التي يعبر النص عنها، ومن هـذا المنطلق نجد القرآن الكريم يلح كثيرا في دعوتنا للسير في الأرض، والتفكير في ملكوت الله ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) (يونس: 101) ، وتأتي هـذه [ ص: 90 ] الدعوة من القرآن تعبيرا عن احترامه للعقل، وتأكيدا على ضرورة شحذ الفكر، لاستكشاف أسرار الوجود، ومعرفة طبيعة الأحداث، التي تجري فيه على حقيقتها التي هـي عليها فعلا، لا كما نتصورها أو نتوهمها، أو نفهمها من خلال ما يتبادر لنا من النص..
وجدير بنا أن نتذكر هـنا موقف الكنسية في أوروبا إبان العصور الوسطى تجاه علماء الطبيعة، فقد رفضت الكنسية آنذاك كل ما جاء به العلماء من نظريات، واكتشافات جديدة، واتهمتهم بالتجديف، وقامت بإحراق بعضهم وهم أحياء، وهددت آخرين بالقتل، إن لم يتراجعوا عما أسمته الكنسية هـرطقة وتجديفا ضد الكتاب المقدس، وهكذا عكست الكنسية القضية، وقلبتها رأسا على عقب، إذ جعلت فهمها للنصوص التي وردت في الكتاب المقدس، هـو الضابط الذي على نهجه يجب أن يسير العلم، وكان الأحرى بها أن تجعل العلم هـاديا لها في فهم نصوص الكتاب وقد يعترض على هـذا المثال الذي سقناه من تاريخ الكنيسة في أوروبا بأن النصوص التي اعتمدتها الكنيسة لم تكن نصوصا صحيحة، بل كانت نصوصا محرفة أو مدسوسة، وهذا ما يجعل القضية مختلفة عن قضيتنا - نحن المسلمين - لأن النصوص التي بين أيدينا صحيحة قطعية الثبوت، لم يصبها تحريف، ولم يتسلل إليها دس..
فنقول: هـذا صحيح، فالقضية عندنا مختلفة عما كانت عند الكنيسة، إذ تتركز المشكلة عندنا في (تفسير) النصوص نفسها، أو بمعنى آخر في (موقفنا من هـذه النصوص) وأضرب على ذلك مثلا المسألة السابقة نفسها، وأعني بها.. كروية الأرض ودوران الشمس.. فقد اقتصر بعض مفسرينا على فهم النصوص في الحكم على هـذه المسألة دون محاولة ربط النصوص بواقع الحال، ودون الالتفات إلى ما يقول به علم الطبيعة والفلك، فانتهوا من ذلك إلى أن الأرض منبسطة لا كروية، وأنها ثابتة، والشمس تدور من حولها.. وقد تذرع هـؤلاء المفسرون بنصوص عديدة من مثل قوله تعالى: [ ص: 91 ] ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) (الحجر: 19) ، وقوله تعالى: ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ) (يس: 38) .. ومن العجيب أن بعض من يدعون العلم ما يزالون إلى يومنا هـذا مصرين على ظنهم الخاطئ بأن الأرض ليست كروية، وأنها ثابتة، والأرض والشمس تجري من حولها ولقد يقال: إن هـذه المسألة قد حسمت نهائيا بالنسبة لعلمائنا المعاصرين خاصة الذين لم يعودوا يرون أي تعارض ما بين النصوص الصحيحة الصريحة وبين ثوابت العلم الحديث.. فنقول: هـذا صحيح بالنسبة للمسألة التي ذكرناها ولكثير من المسائل المشابهة، إلا أن هـناك الكثير من المسائل التي لم تحسم بعد، والتي لم يزل بعض علمائنا يقفون منها موقفا معارضا بحجة أن النصوص تعارض هـذه المسائل.
ويلاحظ أن معظم الذين يتصدون من بيننا لنقد النظريات العلمية ليسوا من أهل الاختصاص، مع أن من الأمور المسلم بها أن كل قضية لا يصح أن يتصدى لها إلا من يملك علما راسخا في هـذا الحقل، أضف إلى ذلك أنه لا يصح بحال من الأحوال تجاهل الشواهد المادية التي قدمها العلماء بحجة أن الفهم الحرفي للنصوص عندنا يعارض هـذه الشواهد، وبخاصة أن هـذه النصوص لا تقطع برد النظرية.
إن قضية الإعجاز العلمي في القرآن وفي السنة النبوية، والتي حازت قبولا حسنا في الأيام الأخيرة عند المسلمين، وعند غيرهم , من ذوي العقول الراجحة، خير شاهد على ما نقول؛ لأنها أصبحت تقدم النصوص للناس وفق فهم جديد يعتمد ربط النصوص بأحدث ما توصل إليه العلم من مكتشفات.
وهذا ما يجعلنا اليوم ننظر إلى النصوص نظرة متجددة في ضوء ما استجد [ ص: 92 ] في عصرنا الحاضر من متغيرات، وما تم فيه من اكتشافات [1]
، لعلنا بمثل هـذه النظرة نستطيع الغوص إلى جوهر النص، واكتشاف المزيد والمزيد من السنن المتعلقة به.