.. بينا في فصل سابق أن الله عز وجل خلق هـذا الكون البديع، وبث فيه من المخلوقات أنواعا كثيرة لا تعد ولا تحصى.. وذكرنا أن هـذا التنوع في الخلق، يستتبع وجود نوع مماثل في السنن التي تحكمه.. وقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن تكون هـذه السنن موافقة لطبيعة الأمانة، التي وكل الإنسان بها.. كما اقتضت حكمته أن يترتب على الأخذ بهذه السنن نتائج خيرة، إذا ما أخذ الإنسان بها على الوجه الذي بينه الشارع الحكيم، وأما إن أخل الإنسان بهذا الشرط، فإن النتائج تنقلب شرا والعياذ بالله..
ومن هـنا كان الحلال والحرام في شريعة الله، وكانت ضرورة إرسال [ ص: 125 ] الرسل إلى الناس لكي يبينوا لهم طريقة الأخذ بالسنن، التي تعينهم على أداء الأمانة العظيمة، التي خلقوا من أجلها.. وهذه من أعظم نعم الله على الخلق، فلو أنه تركهم يعيشون في هـذه الحياة بلا زاد ولا مرشد، لتاهوا وضلوا.. ولكنه – بسبب رحمته الواسعة – أرسل إليهم من يرشدهم إلى الطريق، ويدلهم على كيفية التعامل مع هـذه الحياة تعاملا يثمر الخير والصلاح.
* ونضرب للأمر مثلا..
فقد قدر الله عز وجل لبقاء النوع الإنسان سنة تقوم على التقاء الرجل بالمرأة، وغرس في كل من الجنسين ميلا وشوقا وتعلقا بالآخر، حتى تفعل هـذه السنة فعلها، وتحقق الهدف المنشود منها.. ولكن الله عز وجل لم يدع هـذه السنة رهن الميل الجنسي وحده، بل جعل لها شروطا عديدة،، لا بد من مراعاتها، حتى تؤدي السنة وظيفتها على الوجه الصحيح، وحتى تعود بالخير على الزوجين والأولاد، الذين يأتون ثمرات لهذه العلاقة بين الرجل والمرأة.. ونحن لا نريد أن ندخل في الحديث عن كل الشروط التي اشترطها الشارع الحكيم للعلاقة الزوجية، فهي كثيرة، ولكننا سنكتفي بالوقوف عند الشروط الغريزية (الفسيولوجية) لكي نبين بعد ذلك ما ينتج عن الإخلال بهذه الشروط التي منها:
- ألا تكون الزوجة من المحرمات، كالأخت، وبنت الأخ وبنت الأخت..
- ألا ترتبط المرأة – في وقت واحد – بأكثر من زوج واحد.
- فإن أرادت الزواج بآخر، لوفاة الأول أو لطلاقها منه، فلا بد لها من الانتظار فترة (عدة) قبل أن ترتبط بالآخر.
- فإن أراد زوجها أن يواقعها فلا يحل له أن يواقعها إلا في طهر.
- ولا يحل له أن يأتيها إلا من حيث أمر الله. [ ص: 126 ] وهكذا نجد أن الأحكام الفرعية، بينت مجموعة من الشروط الكفيلة – بإذن الله – بوقاية الزوجين من الأضرار والأمراض، التي تنشأ عادة من العلاقات الجنسية المحرمة، والتي أقلها الأمراض الجنسية الفتاكة، التي يلاحظ تفشيها بين الزناة خاصة.
* مثال آخر..
ونذكر أن الإشعاع الذري الذي اكتشفت قوانينه وطبيعته في مطلع هـذا القرن، أصبح خاضعا الآن للتسخير من قبل العلماء.. وقد وجدنا أن هـؤلاء قد سخروه تارة في الخير، وذلك حين استخدموه لتشخيص بعض الأمراض، وعلاج بعضها الآخر.. وحين استخدموه في توليد الطاقة الكهربائية، وفي إدارة المصانع وتشغيلها، وفي دفع السفن والغواصات، وهذه كلها أغراض نبيلة خيرة.
إلا أن علماء آخرين استخدموا الإشعاع ذاته في الشر، فوضعوه في قنابل ذرية دمرت على الناس مدنهم وحضارتهم، وما نكازاكي وهيروشيما عنا ببعيد
وهذا يعني أن سنة الإشعاع نفسها قد سخرها الإنسان تارة في الخير.. وتارة في الشر..
* ومثال ثالث..
فقد خلق الله العناصر الكيميائية، وجعل في كل منها صفات محددة، باتت معلومة للعلماء، وقد استطاع هـؤلاء بما اهتدوا إليه من سنن الكيمياء أن يركبوا مركبات عديدة جدا من تلك العناصر، ويكفي أن نذكر أننا يمكن أن نحصل من تلك العناصر على أدوية نافعة تدفع عنا آلام المرض وأضراره.. وهذه غاية طيبة خيرة.. كما يمكننا أن نصنع من العناصر ذاتها سموما ومخدرات تسبب لنا شتى أنواع الضرر والأذى.. وربما الموت والهلاك.. [ ص: 127 ] وأحسب أنه ظهر لنا من خلال هـذه الأمثلة أننا قادرون بمشيئة الله على تسخير السنن الربانية في الخير، أو في الشر، فنحن أمام هـذه السنن واقعون بين خيارين كما قـال تعالى: ( وهديناه النجدين ) (البلد: 10) ، فإما أن نوجه هـذه السنن نحو الخير، وعندئذ نفوز وننجو، ونحقق الخير، الذي نصبوا إليه.. وإما أن نوجهها نحو الشر.. وحينئذ.. لا نلومن إلا أنفسنا؛ لأن الخسارة ستكون نصيبنا لا محالة.
وثمة أمر آخر له صلة بحديثنا عن الخير والشر، وعلاقتهما بسنة الله في الخلق، فقد سبق أن قلنا عند استعراض صفة الاطراد في السنن: إن السنن تمضي نحو غاياتها المقدرة، وتقع نتائجها كالقدر المحتوم، كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها، فهي من هـذه الوجهة مثل أصيص الزهور، الذي يهوي من شرفة عالية، فبعد أن يبدأ الأصيص رحلة سقوطه، فإنه دون ريب سيمضي فيها حتى النهاية، ولن يتوقف إلا أن يرتطم بالأرض، أو بجسم آخر ينهي رحلة سقوطه.. وكذلك هـي سنن الله في الخلق، فهي تمضي حتى النهاية كلما توافرت شروطها.. وكما أن أصيص الزهور حين يهوي لا يميز بين أن يسقط على الأرض، أو يسقط على رأس طفل برئ، أو على رأس لص محتال، أو على رأس امرأة حامل.. فكذلك سنن الله حين تتوفر شروطها فإن نتائجها قد تصيب البرئ أو المذنب من غير تمييز.. وهذه الحقيقة تضع الإنسان وجها لوجه أمام مسئوليته في الاختيار، فما دام أنه حر في تسخير السنن وتوجيهها نحو الخير أو الشر، فإن عليه أن يتحرى في اختياره، خشية أن يرتكب الخطأ القاتل، فيوجه سنة نحو الشر، بينما كان يريد أن يوجهها نحو الخير [ ص: 128 ]