الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

4- أرنولد توينبي [1]

مؤرخ إنجليزي،ولد في لندن ، وتخرج في جامعة أكسفورد المعروفة، واشتغل بالتدريس فيها حتى عام 1915م، والتحق بقسم الاستخبارات السياسية، ثم أستاذا للتاريخ واللغة الإغريقية بجامعة لندن، ثم أستاذا وباحثا ومديرا للدراسات بالمعهد الملكي للشئون الدولية.. ألف كتابه [ ص: 191 ] (تاريخ العالم ) ، وكان موقفه من اليهود عموما والصهيونية شديدا، لذا شنوا عليه أكبر حملة، واتهموه بالجهل حتى باللغة الإنجليزية [2] .

تبنى في منهجه الدراسي أن يدرس الحضارات، وليس الدول القومية، أو الجماعات السياسية. وحين يعدد الحضارات يعد منها: المصرية، السومرية، البابلية، الهلينية، الإيرانية، الهندوكية...إلخ، ويعد الحضارتين البدوية والعثمانية من الحضارات التي توقفت عن النمو.

نشوء الحضارة

يطرح توينبي سؤالا يتعلق بالعامل الذي أخرج الإنسان من الدور البدائي ودفعه إلى أجواء التحضر، وهنا يستعرض ما قاله المعنيون وذكروه من عوامل، فيتحفظ على أكثرها.. ثم يسجل أن الحضارات وجدت وقامت في أحواض الأنهر، لكنه يستدرك إذ لا يجد ذلك عاما، فكم هـي كثيرة أحواض الأنهر التي لم تعرف حضارة؟!

وتفسير ذلك سهل، فالإنسان والحيوان والنبات بحاجة للماء، ولذا كان يسكن قريبا من الأنهار، ليستقي منها ويزرع، وليقيم حضارته أو تحضره، لكن ليس النهر هـو السبب الأول، بل هـو الإنسان، فوجود النهر عامل مساعد.. وقد يوجد أكثر من نهر، ولا تقوم الحضارة، لكن قيامها قديما بعيدا عن الأنهر يجعلها في غاية الصعوبة. [ ص: 192 ]

نظرية التحدي والاستجابة

يرفض توينبي تفسير التحضر أو حصره بعامل واحد، لذا نراه يقول [3] : (ليس السبب في نشوء الحضارات بسيطا، ولكنه متعدد، وليس وحدة مستقلة، ولكنه علاقة مشتركة ) .. وقد طرح نظريته في (التحدي والاستجابة ) معتبرا ذلك محركا للإنسان بشروط، فالإنسان يستجيب للتحدي متى كان في حدود قدراته، وإلا عجز.

لذا راح يبحث عن صور التحدي، فحصرها مثلا بتحدي الإنسان لأخيه، أو تحدي الطبيعة للإنسان. ثم راح يبحث في التراث الإنساني عن شواهد، فذكر ما حدث بين آدم عليه السلام والشيطان، والسيد المسيح عليه السلام والشيطان. وعن تحدي الطبيعة للإنسان، يذكر أن الجفاف الذي أصاب شمال إفريقيا، استجاب له الناس هـناك على نوعين: نوع هـاجر إلى وادي النيل، ليقيم حضارة هـناك، وفريق بقي في مكانه، فبقي بدويا في عيشه وقيمه.

ثم يذكر عوامل مماثلة، دفعت الإنسان في بلاد الرافدين، دجلة والفرات، ليقيم حضارة مبكرة. ثم يذكر أن حوض النهر الأصفر في الصين ، كان يموج بالأدغال والغابات والوحوش والفيضانات والأملاح، فدفع ذلك التحدي الشعب الصيني إلى مكافحة هـذه الآفات كلها، ثم ليقيم حضارته في حوض ذلك النهر. [ ص: 193 ]

أما تحدي الإنسان للإنسان فيرى:

أ- فئة مسيطرة في مدنية منهارة، تتحداها فئة مستقلة ومنفصلة عنها.

ب- فئة خارجية على حدود المواطن الحضرية، تتحفز لتقويض سيطرة الأولى، فتقوم بتقويض سيطرتها المتداعية، ومن ثم تقيم حضارة جديدة.

ومن هـذه النـظرة يفـسر قيام الحضارة الغربية من الحضارة الهيلينية، بل سائر الحضارات اللاحقة للحضارات السابقة.

شروط التحدي

يرى توينبي أن التحدي المفيد المنتج ينبغي أن يتوفر فيه:

أ- أن لا يكون صعبا، بحيث يعجز الإنسان عن التعامل معه، بأن يكون فوق طاقاته وقدراته، فهذا التحدي لا يحرك الإنسان، بل يقعده، ويضرب مثالين لذلك:

مناطق الأسكيمو حيث البرد والثلج، فمثل هـذا المناخ لا يمكن الإنسان من أن يقيم حضارة، ويظل كل هـمه منحصرا في الكفاح، كي لا يموت من الجوع أو البرد.

وأما المثال الآخر فالمناطق الصحراوية حيث الحرارة المرتفعة، والماء القليل، فالإنسان لا يستطيع إقامة حضارة، بل يكافح ليبقى حيا.

ب- أن لا يكون التحدي سهلا، بحيث لا يثير في الإنسان دوافعه للتحضر، ويضرب لذلك أمثلة بالجماعات التي تعيش في المناطق الاستوائية، حيث الشمس والمطر والجو المعتدل، فتلك الجماعات بقيت بدائية ولم تتحضر. [ ص: 194 ]

وغني عن القول: إن صعوبة التحدي وسهولته أمر نسبي، فما تعتبره أمة صعبا قد لا تعتبره أمة أخرى كذلك.

أما تحدي البيئة للإنسان، فقد عد توينبي خمسة دوافع يمكن أن تستثير فاعلية الإنسان وجهده، من ذلك:

دافع الأرض الصعبة.. دافع الأرض البكر.. دافع النكبات.. دافع الضغط.. دافع العقوبات.

هذه الدوافع تستثير الإنسان، فتأتي الاستجابة المناسبة [4] . ثم يحاول الإكثار من الأمثلة على التحـدي والاستجابة، ولأنه درس تاريخ العـالم، فلا يصعب عليه العثور على الأمثلة التي تشهد لنظريته، من ذلك:

1- أن الزنوج في أمريكا كانوا يعانون الرق، ومن التفرقة العنصرية، وبعد إلغاء نظام الرق عام (1860م) رسميا، بقيت التفرقة العنصرية، فكيف استجابوا لهذا التحدي؟ يرى توينبي أن (الأسود ) بعد أن وجد الموازين راجحة ضده في الدنيا، راح يتطلع إلى الآخـرة، كما راح يكيف نفسه مع البيئة، وذلك عن طريق استكشاف طائفة من المعاني والقيم الطريفة في المسيحية، بعد أن تجاهلها أهلها، مثل: أن المسيح عليه السلام جاء ليعلي من شأن المستضعفين، وليس ليعزز مركز الأقوياء.

ويرتب توينبي على ذلك: أن يوفق الأفارقة السود، في إشعال النار في رماد المسيحية الخـامـدة، عساها تنبض بالحياة مرة ثانية، لكن الواقـع [ ص: 195 ] لا يشجع على هـذا الاستنتاج، فالسود راحوا ينفصلون عن البيض كليا، ويبتعدون عنهم، بعد أن كان الأبيض هـو الذي يفعل ذلك.

القضية الأهم: أن الإنسان الأبيض، المعجب بنفسه إلى حد الغرور، لن يقبل من الأسود شيئا، ولا حتى من الملونين، ولا أبناء العالم الثالث، فكل هـؤلاء لا يحترمهم ولا ينظر إليهم بعين الرضا أو التقدير.

أما كيف وصل توينبي لهذا التصور، فهو يقارن بما حصل للعبيد في إيطاليا ، حيث اعتنقوا المسيحية، فأقاموا ديانة جديدة حية قامت مقام ديانة لا حياة فيها.. وهذا القياس من الصعوبة قبوله، فإيطاليا الأمس ليس أمريكا اليوم، والظروف اختلفت كليا.

2- يذكر توينبي أن منطقة (الشرق الأوسط ) تعرضت لتأثيرات حضارية، تنافي طبيعتها، وذلك حين تسربت إشعاعات ثقافية يونانية ورومانية للمنطقة، فشكلت قضية تحد، أما الاستجابة فكانت (اعتناق الإسلام ) .

ثم اندفع المسلمون لاسترداد مجد الشرق الأوسط، وترتب على ذلك أن استردوا للشرق الأوسط شخصيته، تلك الشخصية التي أهدرها العدوان الثقافي الهيليني مدة طويلة من الزمن، وهكذا أصبحت المدن الإسلامية مراكز حضارة مزدهرة. [5] .

إن هـذا التفسير للإسلام يتعذر قبوله، فإذا كانت بلاد الشام عرفت [ ص: 196 ] الروماني فاتحا ومستعمرا، فلم تعرف عنه حامل ثقافة، أو ناقل ثقافة، لقد كان فاتحا مستعمرا وكفى.

أمـا الجـزيـرة ففيـها قلـة يهوديـة، ومـثـلها قـلة نصـرانيـة في اليـمن ومـا حولها، ولم يكن لديها شيء تقدمه أكثر من شرب الخمور. وهؤلاء وأولئك عاشوا مع العرب، دون أن يشعر بهم أحد، ولذا فلم يشكلوا تحديا لجمهور العرب الوثني، وحين حاربت قريش المسلمين في المدينة ، تحالف اليهود معها، ضد المسلمين، الذين تربطهم بهم معاهدة، والذين يؤمنون بالله تعالى وكتبه ورسله.

لذا فتفسير ظهور الإسلام كاستجابة يصعب أو يتعذر قبوله، لكني أوافق بقوة على أن الإسلام رد للشرق الأوسط شخصيته، بل ما زال يملك ذلك، وربما كان الوحيد المالك، فمنذ سقوط الدولة العثمانية وحتى هـذ اللحظة ما زال الإسلام هـو الأقوى والأقدر على إنقاذ المنطقة ورد العافية إليها، وتجربة ثلاثة أرباع قرن تكفي لبيان ذلك، وعلى الذين يجـادلون وينـكـرون ذلك أن يأتـوا بالأدلـة والشواهد، وقديما قال الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

3- يعتقد توينبي أن تشتت اليهود كان من التحديات، وأن تجمعهم في فلسطين سيقضي على هـذا التحدي، كما أن تجمعهم في فلسطين سيشكل تحديا لأهلها أولا، ولأهل المنطقة كلهم، وستكون الاستجابة تشتيتا جديدا لليهود. [ ص: 197 ]

كما أن احتقارهم لكل الغرباء، واعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، سيثير عليهم العالم [6] ، (وذلك باعتبارهم جماعة شاذة، ما انفكت تتعمد عزل نفسها عن بقية الجنس البشري، وإن اقتضاهم ذلك مشقة وعنادا بالغين، وعرضهم لاضطهاد العالم ونقمته المتواصلة عليهم ) .

إن هـذا النقد لا يطيق اليهود سماعه من أحد، لذا شنوا على توينبي أكبر حملة، واستخدموا كل ما لديهم من قوة، واتهموه بالتعصب للمسيحية، وأنه يتحدث كنبي، حتى وصل بهم الأمر أن اتهموه بالجهل حتى بلغته الإنجليزية، كما اتهموه بالسذاجة والسطحية وضيق الأفق، ووصفوا منهجه بالتخبط والتعالم والتكاثر بالمراجع، ليخدع القارئ. وزاد من نقمتهم عليه مناصرته للشعب الفلسطيني، ونفي أي حق لليهود، قائلا: إذا كان الغرب اضطهدهم فليس على الشعب الفلسطيني أن يدفع الثمن. وكل هـذا لم يعد أحد في الغرب يجرأ على قوله، وإن كان الكثير يسلم به ويعترف!!!

كيف تنمو الحضارة

يدرس توينبي كافة النظريات في تفسير نمو الحضارة، فيراها تركز على الكم دون الكيف، فهي تسجل الانتصارات، وعلى رأسها العسكرية، بينما يرى توينبي أن التوسع العسكري قد يحصل مع هـبوط الحضارة، وكثير من الدول كانت تلجأ للحروب الخارجية، هـربا من مشاكل [ ص: 198 ] داخلية وانقسامات في صف الأمة.. كما يرى أن التقدم العلمي والصناعي قد يحصل دون تقدم الحضارة، وقد يتلازمان.

وأخيرا فهو يرى أنه ليس من الضروري أن تنمو كل حضارة ناشئة حتى يكتمل نموها، وتصل إلى القمة، فقد تتوقف في مرحلة، بسبب عجزها عن التغلب على تحديات تواجهها، ويعد من الحضارات المتوقفة العثمانية والإسبارطية والبدوية.

من جهة أخـرى يرى تويـنبي أن التغـلب على تحد معـين لا يكفي، بل لا بد من وجود قدرة على مواصلة الاستجابة للتحديات [7] .

من قضايا النمو الحضاري

ما هـي المسائل الأساسية في قضايا النمو الحضاري؟

يستعرض توينبي جملة قضايا يقيس بها نمو الحضارة، منها [8] :

1- في مجال نمو الذات:

يرى توينبي أن تطور العلوم والفنون والصناعة، يسير نحو التبسيط، ففي الآلات مثلا ابتدأ الإنسان بالأدوات البخارية، لينتقل إلى الآلات التي تشتغل بالوقود.. وفي مجال النقل البري، ابتدأ الإنسان بالقاطرات التي تسير على قضبان ثابتة، لينتقل إلى الحافلات والسيارات، التي لا تحتاج إلى قضبان.. وفي الاتصالات ابتدأ الإنسان بالتلغراف لينتهي باللاسلكي، [ ص: 199 ] وكل هـذا التطور يساير رغبة في نفس الإنسان، كي يتحرر من العوائق.

2- الفرد والمجتمع:

هل المجتمع هـو الحقيقة، والفرد ذرة من ذراته فقط، أم أن الفرد هـو الحقيقة، والمجتمع هـو مجموع تلك الذرات؟

يرفض توينبي النظرتين معا، ويرى [9] (أن المجتمع هـو علاقة بين الأفراد، وهذه العلاقة تقوم على اتفاق في مجالات أعمالهم، اتفاقا يجمعها على صعيد مشترك، وهو ما نسميه بالمجتمع ) ، وبناء على ذلك يكون المجتمع مجال عمل مشترك بين مجموعة من الناس، وأما الأفراد فهم ينبوع العمل، والنمو الحضاري أو التحضر يحصل عادة عن طريق المبدعين من الأفراد، وعن طريق الفئة الصغيرة من القادة الملهمين.

ويضرب لذلك مثلا جيدا بالفلاح يحرث الأرض ويزرعها، فكل نبتة لها كيانها المستقل، لها ساقها وأوراقها، وهي تأخذ نصيبها من الغذاء والماء والشمس، ولكن هـذا الحقل بمجموعه، يعود لفلاح زرعه للحصول على محصول واحد، فكل نبتة تمثل فردا، والحقل يمثل المجتمع، وهو تمثيل جيد -وقد تقدم هـذا- وهو قريب جدا من التصور الإسلامي.

3- الاعتكاف والعودة

عرف عن الفرد إنه قد يعتكف في مكان، مدة من الزمن ثم يعود إلى [ ص: 200 ] مجتمعه، وكتب السيرة تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في غار حراء يتعبد، ثم يعود لأهله ومجتمعه، وتقدم أن ابن خلدون اعتكف سنوات في قلعة (سلامة ) يكتب ويؤلف ثم عاد إلى مجتمعه وأهله.

هذه الظاهرة الفردية حاول تونيبي أن ينقلها إلى مجتمع أو دولة، معتقدا أن الأعمال الرائعة للإنسان تتم بحركة مزدوجة من الاعتكاف والعودة، بهدف تحقيق نوع من الصفاء للذات، واستلهام الحق، وتكون العودة من أجل هـداية الأتباع، وتتضح الظاهرة في حياة عدد من الأنبياء.

لكن توينبي نقل هـذا العمل من ميدان الفرد إلى المجتمع والدولة، فيرى أن إيطاليا فعلت ذلك قبل النهضة، وإنجلترا في العصور الوسطى، ثم عادتا لتساهما في نمو الحضارة الغربية. ويمكن أن أضيف هـنا ( اليابان ) ، فقد عاشت زمنا في عزلة عن جيرانها وكانت سنوات هـدوء وسلام، ولم تغز اليابان بلدا، ولم يغزها أحد، ثم لتنطلق بعد ذلك [10] .

4- التنوع داخل الوحدة خلال فترة النمو:

يرى توينبي أن الحضارة النامية تشكل وحدة متماسكة، وحركة منتظمة، إلا أن تجارب الفئات المتعددة ليست متماثلة، إنها تختلف باختلاف الكيفية التي يستجيب بها الفرد أو الأقلية المبدعة أو المجتمع كله للتحديات المتتابعة، ومن هـنا وجدت الفروق بين المجتمعات الصغيرة، في الحضارة الواحدة، وهنا تبرز الخصائص المميزة للحضارات [ ص: 201 ] المختلفة، فهذه جمالية، وتلك دينية، وهذه علمية، وهكذا. إلا أن ناقديه رفضوا هـذا التصنيف، فهم يرون في كل حضارة قدرا من الجمال، ودينا تتبعه الأكثرية، وقدرا من العلم والمعرفة.

كيف تنحل وتسقط الحضارة

كل متابع لحركة التحضر يراها كصاعد الجبل، يرتقي ويتسلق، حتى إذا وصل القمة -في رحلة تطول أو تقصر- راح يهبط إلى قاعدة الجبل، لم تشذ حضارة عن ذلك، وتتفاوت بطول البقاء وسعة السقوط، فكيف يفسر ذلك المهتمون بحركة التحضر؟

( اشبنجلر ) يرى سقوط الحضارة حتميا، لم تنج منه حضارة، والدور الآن على الحضارة الغربية.. ابن خلدون يـراهـا دورة كامـلـة -كما تقدم- فكيف ينظر لها توينبي؟

إنه يرفض الحتميات كلها، وهو يستعرضها على الوجه التالي [11] :

1- القول بأن الكون صائر إلى الشيخوخة والزوال، ذلك لا يكون في القريب العاجل، من هـنا فتأثيره على سقوط الحضارة بعيد.

2- يرفض تشبيه الحضارة بالكائن الحي، فالحضارة تولد ثم تنمو ثم تشيخ وتموت، هـذا لا يسلم به، ذلك أن المجتمعات ليست كائنات عضوية، والمجتمع يمكن أن يجدد شبابه، أما الإنسان فلا. [ ص: 202 ]

3- يرفض فكرة أن الحضارة لها دورة كاملة، كما يقول ابن خلدون ، ويرى أن الدولاب الذي يحمل عربة التحضر، يدور على نفسه، وعندها تندفع العربة نحو الغاية الكبرى، في حركة تقدمية مستمرة.

4- إن العجز عن صد الاعتداءات الخارجية على الحضارة، ليست سببا لسقوطها، بل دليل على وجود انهيار سابق، كشف العدوان الخارجي عنه، ويمثل لذلك بسقوط الحضارة الرومانية، والأندلسية.

5- يرى توينبي أن النقص في الميادين العلمية والتقنية، ليس علة في سقوط الحضارة، ولكنه مجرد عرض لا أكثر.

بعد هـذا الاستعراض يذكر توينبي تصوره الخاص بسقوط الحضارة وأسبابه، ويردها إلى ثلاثة أسباب:

1- ضعف القوة المبدعة في القيادة، وتحولها إلى مجرد سلطة متعسفة.

فهذه الأقلية التي كانت نشطة أكبر نشاط في مرحلة النمو، لم تعد قادرة على القيام بالرد على التحديات التي تواجهها، ولعجزها عن ذلك، تنقلب إلى أقلية مسيطرة، تسعى بكل قواها للحفاظ على مركز قيادتها، والذي لم تعد أهلا له، وهنا يحصل انفصال بين الأكثرية من الشعب والأمة، وبين الأقلية، وهنا يبدأ زمن الاضطرابات والفتن المحلية، أو الحروب داخل المجتمع، ومع المجتمعات المجاورة.. ويـمكن أن نـمثل له بـما حـصـل في الأندلـس ، فلـكل مدينة أمير، يقاتل أخاه أو ابن عمـه، ولا يرى بأسا بالتحالف مع عدوه وعدو أمته، ثم تتساقط المدن، وتنتهي [ ص: 203 ] الحضارة بسقوط مريع، يقذف بالكل خارج أسبانيا .

ويرى توينبي أن قيام الاضطرابات يحفز الأقلية لإحكام السيطرة، واستعمال القوة، وهكذا تزداد الشقة والهوة بين الأقلية والأكثرية.

2- تخلي الأكثرية عن موالاة الأقلية المسيطرة، ثم الكف عن محاكاتها.

ففي زمن النمو تتابع الأكثرية الأقلية المبدعة، وتسير بقناعة خلفها، وبعد تحولها إلى قلة مسيطرة فاقدة للإبداع متحكمة في الأكثرية دون استحقاق، هـنا تتخلى الأكثرية عن الأقلية، ثم يعقب ذلك الانشقاق.

3- الانشقاق وضياع الوحدة، حيث تقف الأكثرية ضد الأقلية المسيطرة.. وهكذا تسقط الحضارة.

إن سقوط الحضارة يسبقه، ويقدم له، انحلال الحضارة.. فكيف يتصور توينبي ذلك؟

انحلال الحضارة

يعرض توينبي نظريته في انحلال الحضارة بشكل واضح، وأستطيع ابتداء القول: بأنه أقرب ما يكون للتصور الإسلامي، فهو يرى أن انحلال الحضارة يزامنه ويرافقه فساد يدب في أرواح الناس أولا، وتغير جذري في سلوكهم، وحتى مشاعرهم، وفي كل جوانب حياتهم، فيقوم مكان الصفات الجيدة والقوى المبدعة، التي كانت تفيض بها نفوسهم -في دور النمو- يحل مكانها (ثنائية ) من النزعات والمواقف [ ص: 204 ] العقيمة والمتناقضة.. وهنا يتعرى الفساد الروحي، ويكشف عن فوضوية تشمل الأخلاق والعادات، وانحطاط يسود الآداب والفنون، مع محاولات عقيمة للتوفيق بين المذاهب والأديان المختلفة. وهنا قد تسعى الأقلية المسيطرة في بعض الحالات إلى فرض فلسفة بالقوة، أو دينا مختارا، لكنها تفشل في كل ذلك.

ويذكر استثناء واحدا -غير سليم- وهو انتشار الإسلام بين الأمم المغلوبة عن طريق القوة أو التساهل.. لقد دخلنا الأندلس بـ (12) ألف مقاتل وخرجنا منها مأزومين مهزومين، وعددنا أكثر من ثلاثة ملايين.. إن خرافة انتشار الإسلام بالقوة خرافة روج لها الاستعمار ورجاله، كي يبرر غزو القارات كلها ونهبها وسلبها، بل واستمرار السلب حتى اليوم، وليسود وجه الإسلام.

وفي الختام أرى من النافع أن أنقل نصا للدكتور الشرقاوي يلخص نظرية توينبي في الحضارة صعودا وسقوطا، فيقول [12] : (ذلك هـو تصور توينبي للدورات الحضارية، فالتاريخ عنده كأنه تجربة واحدة تمت على مراحل أو دورات، وكل الحضارات التي يدرسها مرت بأطوار متشابهة في النمو واستمرار التقدم، وزيادة القوة، ثم تنشأ بعد ذلك عقبات من الداخل أو الخارج، أمام هـذه الحضارات، تمثل ألوانا من التحدي، قد [ ص: 205 ] تعجز الحضارات عن الاستجابة لها بنجاح، فيكون التفكك والانهيار، وقد تنجح في مجابهتها فيكون التقدم والاستمرار إلى حين. على أن انهيار الحضارات في النهاية لا يمثل شرا مطلقا، فكل تجارب الحضارات السالفة تتمثل في الحضارات الجديدة، بصورة أو بأخرى، ومن هـنا فإن التاريخ لا يعرف حضارة زالت تماما، وإنما الذي يحدث -في غالب الأمر- أن الحضارة بعد أن تتم دورتها، على يد أمة أو أمم، تقوم بعد ذلك حضارة أو حضارات جديدة ) .

تعقيب ومناقشة

إذا استثنينا الهجوم اليهودي على توينبي ، فإن النقد الموضوعي جاء من د.عفت الشرقاوي ، وجاردنر ، وسوركن .

وأهم بنود هـذ النقد أن توينبي يؤمن نظريا بحرية الاختيار، لكن نظريته تسير في اتجاه الجبر، وقد شبهه بعض ناقديه بأنه مثل عالم الكلام الإسلامي، الذي يقيم الدليل على الجبر، ولأسباب نفسية يؤمن بالاختيار. كذلك نقدت نظريته بالنسبة للحضارة الغربية، فهو يصورها وكأنها تجتاز مرحلة عظيمة في التقدم، وهي على حافة الهاوية والانحلال، وفي ذات الوقت لا يريد الاعتراف بهذه النتيجة، والحكم على حضارة اليوم بالزوال، فيتحدث عن احتمال (إرجاء إلهي ) تنجو بفضله الحضارة من هـذا المصير. [ ص: 206 ]

يرى د. الشرقاوي [13] أن توينبي لديه قلق شخصي بالنسبة لمصير حضارة اليوم. كذلك وجه له نقد حول تقسيمه الأدوار الحضارية، من النشوء إلى الانحلال والسقوط، أساسا لفلسفته وتفسيره للتحضر، ويرفض أمثال سوركن ذلك لأن هـذه النظرية تعني أن هـذه الأدوار كيانات حقيقية، لا مجرد تجمع لظواهر اجتماعية وثقافية، جمعها الزمان والمكان، دون أن يكون بينها ترابط سببي موحد.

ويستشهد سوركن لافتراضه بأنه [14] (لو صح افتراضه أن الحضارات كيانات حقيقية، إذن للزم التغيير في أحد مقوماتها، لزم تغيرا في مجموع المقومات الأخرى. ) وهذا غير واقع ولا حاصل.

كذلك ينتقد سوركن ما يطلق عليه توينبي بأنه وحدة حضارية، فيرى بأنه ليس أكثر من مجال ثقافي، توجد فيه العديد من الأنظمة، والتكتلات الاجتماعية والثقافية، إلى جانب بعضها، وقد تكون منسجمة أو غير منسجمة. ثم يزيد سوركن -وهو ماركسي قديم منشق [15] - (كل ما ليس في أصله بنية حية لا يمكن أن يولد وينمو ويموت ) . ومن هـذا المنطلق لا يعتبر سوركن تفسير توينبي نظرية في التطور الحضاري، بقدر ما هـي نظرات تقويمية لأغراض التقدم أو التأخر الحضاري. [ ص: 207 ]

كـذلك سـجـل سـوركن أن توينـبي قـال بـأنه يـدرس حـضـارات ولا يدرس دولا، لكن أغلب شواهده جاء من الدول القومية، علما بأنه لا يعتبرها -أي توينبي- وحدات أساسية للدراسة التاريخية، وكان الأولى والأجدر به أن يأخذها من تاريخ الحضارات، إذا صح وجودها كوحدات مستقلة.. ويأخذ عليه الإطالة في كتابة (تاريخ العالم ) ، الذي جاء بـ (12) جزءا، وذكر قضايا كثيرة حسمها من سبقه.

ومع ذلك يعترف سوركن بأن توينبي في دراسته للتاريخ جاء بأعظم الآثار الفكرية في هـذا المجال.

ولعل من أفضل ما نقد به توينبي أنه -كمؤرخ- راح يأخذ الحوادث من إطارها الحضاري وظروفها التاريخية، ليبرهن بها على صحة نظريته في التحدي والاستجابة، ويفسرها ويوجهها كما يحب، فالعبيد في إيطاليا مثلا، وعلى عهد الرومان، لا يشبهون السود في أمريكا ، وليست ظروفـهما واحدة. والاعتكاف للفرد شيء، ونقله لمحيط شعب أو أمة شيء آخر.

وأختم بما كتبه عن اليهود ، وسبب عدائهم القاتل له [16] :

(.. أما بالنسبة لادعائهم بأنهم أصحاب حق في المطالبة بتعويضات عن الجرائم التي اقترفها الألمان بحقهم، فإن لهذا الادعاء ما يبرره، ولكن [ ص: 208 ] ادعاءهم بأن ما اقترفته النازية بحقهم من جرائم تقضي بإعطائهم وطنا خاصا بهم، فهو ادعاء مردود من أساسه، وإذا وجد لهذا ما يبرره فإن هـذا الوطن الخاص، يجب أن يمنح لهم في الأرض الألمانية، لا في الأرض العربية، التي يملكها أهلها منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ) .

وإذا كان اليهود ما زالوا (يحلبون ) من الألمان ويبتزون، فضحايا دير ياسين ، وتلاميذ مدرسة حوض وذبح أهل (قانا ) بلبنان ، وضرب المفاعل النووي العراقي، وكهرباء لبنان، وتعويض كل لاجئ فلسطيني مما فقد، وكل أرض صادرتها إسرائيل ، وكل بستان نهبته، حتى المقابر التي حولتها إلى فنادق، والمساجد التي حولتها إلى بقالات وحظائر للبهائم... كل ذلك يجب أن يدفع كاملا، ومن أموال اليهود وليس من أموال العرب أو غيرهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية