5- مالك بن نبي [1]
هو مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي يرحمه الله، ولد في مدينة قسنطينة في الجزائر عام (1323هـ/1905م) .
درس الابتدائية في تبسة، وفي المرحلة المتوسطة انتقل إلى قسنطينة، وهناك تعرف على مجموعة من تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس ، [ ص: 209 ] والذين كانوا ينافحون عن الإسلام، وكان يحرص على حضور الاجتماعات ليناقش في الموضوعات العلمية والدينية.
عام 1343هـ/1925م تخرج في المدرسة، وصار يبحث عن عمل، وقد سافر إلى فرنسا لكنه لم يفلح في الحصول على عمل، كما لم يحصل على فرصة عمل في الجزائر ، مما اضطره للتقدم بطلب عمل، ولو بدون أجر، في محكمة تبسة ، فقبل ذلك على أمل أن يتحول إلى موظف، وقد حصل له ذلك في محكمة آفلو .
لكن السفر إلى فرنسا والدراسة هـناك كان من أحلامه، وقد وفق لذلك، وسجل في معهد الدراسات الشرقية، بشرط أن يؤدي امتحانا، ولما أخفق تحول إلى مدرسة اللاسلكي، ثم إلى مدرسة الكهرباء والميكانيك، لكنه حرم من الشهادة لأسباب استعمارية كما يقول، ودرس المساحة، وإلى جانب ذلك كله كان يشارك بعض الطلبة الجزائريين دراسة خاصة -سرية- في الشعر والبلاغة والأدب.
وعاد إلى الجزائر عام 1932م للزيارة، وقد عزم على الهجرة للسعودية ، لكنه لم يوفق، كما حاول الهجرة إلى مصر وأفغانستان وألبانيا ، ولم يفلح. وفي عام 1375هـ/1956م، قدم إلى مصر وعاش فيها حتى استقلت الجزائر، فرجع إليها عام 1382هـ/1963م، حتى وافته المنية عام 1393هـ/1973م، في منزله بالجزائر. [ ص: 210 ]
مالك وقوس التحضر
تقدم أن مالكا يرحمه الله، من القائلين بدورة الحضارة، فهي عنده تمر بثلاثة أطوار [2] :
أ- طور الروح (النهضة أو الميلاد ) ، ويبدأ من الصفر، وهو يتفق مع لحظة وجود أو ظهور دين في المجتمع، وبداية تركيب الحضارة، ويتميز هـذ الطور بترويض الغرائز، بحيث تسلك في نظام خاص، يكبح جماحها، فالروح هـي المسيطرة في هـذا الطور على تطور المجتمع، والمسيرة له.. ويبرز ذلك في القدرة العالية على تكييف الطاقة الحيوية للمجتمع، بحيث يتأهل لأداء وظيفته التاريخية، ويظهر أثرها في إبراز المجتمع إلى عالم الواقع، أو تجسيد المبادئ من خلال المجتمع، وتكامل بنائه، في ضوء المبدأ الجديد. وهذا التكوين تنشأ معه الأسباب التي تؤدي بالمجتمع الوليد إلى الانتقال للطور الثاني من أطوار حضارته، فبقدر إشعاع الدين الجديد في العالم، تنشأ المشكلات المحسوسة لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله.
ب- وصول الحضارة إلى هـذا الحد، يؤذن بانتقالها إلى الطور الثاني، وهو طور (العقل ) .. ودخول الحضارة لهذا الطور يحدث بسبب توسع [ ص: 211 ] المجتمع واكتماله، فلكي تستطيع الحضارة تلبية الضرورات المستجدة تسلك منعطفا جديدا، وهو منعطف العقل، وهو يختلف عن سابقه، إذ إن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع حينئذ في التحرر من قيودها، بحيث تفقد الروح نفوذها على الغرائز تدريجيا، كما أن المجتـمع يكف عن ممـارسة ضغطه على الفـرد، ومن المسـلم به أن الغـرائـز لا تنطلق دفعة واحدة، وإنما بقدر ما تضعف سلطة الروح.
ومـن السـمات الممـيزة لهـذا الطـور، اتجـاه الأفكـار لتكيـيف المادة، أو الناحية التقنية، بدل التوجه لتكييف الطاقة الحيوية، كما هـي سمة الطور الأول... فالمجتمع يميل إلى إبطال صفة القداسة في مبادئه، بمقدار تقدمه في الطور الثاني، أي في طور المشكلات التقنية ومشكلات التوسع، بحيث يمكن تفسير هـذه الظاهرة بطريقتين، فهي (تقدم ) من وجهة نظـر الاقتصـاديـين، و (تخلف ) من وجـهة نظـر فـلاسفة التاريخ، إذ هـي بداية الانحراف أو الشيخوخة للمجتمع.
جـ- وهكذا يبدأ خط الانحراف في سير الحضارة، وما يزال يتسع إلى أن تصل الحضارة إلى الطور الثالث من أطوارها، وهو طور الغريزة (الأفول ) .. وحينما يصل المجتمع إلى هـذا الطور تكون الغرائز قد بلغت قمة تحررها، وأضحت هـي المسيطرة على المجتمع، فتفقد الروح قدرتها على الهيمنة، وبذلك تتم دورة الحضارة، ويصل المجتمع إلى المرحلة الثالثة من مراحل التاريخ، أي مرحلة ما بعد التحضر. [ ص: 212 ]
سمات المراحل
ولكل مرحلة من المراحل سمتها الخاصة، بحيث تتميز عن الأخرى سواء أكانت سابقة لها أم لاحقة، فيختلف وضع المجتمع من حيث التقدم أو التخلف أو التدهور حسب مرحلته التاريخية.
هذا العرض أو الاستعراض يناسب الحضارة الإسلامية، حيث بدأت مع انتشار الإسلام، وكانت قوية في صدر الإسلام، روحية مفعمة بطاقات الروح، حتى إذا وصلت إلى العصر العباسي، وبدأ تدوين العلوم والمعارف والترجمة، صار الطابع الغالب (العقل) ، وفي أواخر العهد العباسي تحول المجتمع إلى مجتمع مترف، حيث امتلأت البيوت بالجواري الحسان والغلمان، فانفلتت الغرائز، حتى جاء الاجتياح التتري وسقوط بغداد .
ويمكن رصد مثل هـذا (الخط ) في الأندلس ، حيث وقعت الفاجعة، ورحل من رحل، وأحرقت الكتب في الساحات العامة، وهدمت الحمامات، وأقفرت المدارس والمساجد.
والجديد عند مالك هـو ما يتعلق بحضارة اليوم، فكأنه يشارك توينبي أنها سائرة نحو السقوط، ولكنه يبحث عن (إرجاء إلهي ) يمنعها من السقوط. [ ص: 213 ]
أما مالك فوجد حلا آخر -غير الإرجاء الإلهي- فحضارة [3] اليوم صارت حضارة العالم، لكثرة المشاركين فيها من كل أرجاء العالم، فانتقلت من حضارة مجتمع خاص إلى حضارة أوسع، ومن كونها ثمرة عبقرية معينة، إلى نطاق أعم وهكذا، ولذا فهو يرى أن قانون التغيير حدث فيه تعديل.
فالأحداث الحاضرة تدل على تغير طارئ في قانون الحضارة.. فالتطور الطارئ مع الحضارة الغربية، من الناحية الصناعية، وانتشارها من ناحية أخرى بفعل الاستعمار، نقل الحضارة من كونها في إطار مجتمع معين، أو ثمرة عبقرية معينة إلى نطاق عالمي، بحيث أصبحت العبقريات كلها تشارك في صنع الحضارة واستمرارها. وقد أحدث هـذا التوسع تحولا في طبيعتها التاريخية، فلم تعد خاضعة لقانون الدورات، فهي إنما كانت تخضع لهذا القانون حينما كانت في نطاق مجتمع معين، وعبقرية معينة، لا تلبث بعد مدة من الزمن أن تفقد إبداعها، فتأفل حضارتها.. أما في هـذا العصر فليس هـناك مجال بتوقع الأفول، لأن صنع الحضارة واستمرارها أصبح من شأن الشعوب الإنسانية كلها، فإذا تضاءلت الحضارة في مكان، فإنها تنمو في مكان آخر، وهذا الأمر يؤكد أن نهاية الحضارة الإنسانية -بعد هـذا التطور- سيكون بالكسوف الكلي النهائي. [ ص: 214 ]
وقد ظهر أثر -هذا الامتداد- في اتجاه العالم نحو تحقيق وحدته المعنـوية أو الحضـارية، بعد تحقـيق الوحـدة من النـاحية التقنية المادية، فما لبث العالم يقترب من تحقيق هـذه الوحدة، وإن كانت أصول الاتجاه لهذه الوحدة تمتد في أعماق تطور النشاط البشري، فإنها أخذت في التجلي بشكل واضح منذ منتصف القرن العشرين. ومن مظاهرها، في المجال السياسي ظهور هـيئة الأمم، وفي مجال المواصلات ظهور البريد العالمي، وفي الثقافة منظمة اليونسكو، إلى غير ذلك من المنظمات والاتحادات التي تظهر اتجاه العالم نحو تحقيق وحدته.
من ناحية أخرى، فهذ التطور يبرز حاجة البشرية إلى منهج رشيد يحقق وحدتها، في عهد حضارتها العالمية.. ومن خلال استقراء الأحداث الحاضرة يلمح مالك بن نبي دور الإسلام، باعتباره المرشح الوحيد القادر على تركيب الحضارة الإنسانية في عهدها العالمي.
نهاية حضارة اليوم
والذي أتصوره أن الحضارة الإسلامية قد شارك فيها أمم وشعوب مسلمة وغير مسلمة، ولم يمنعها ذلك من السقوط، ولكن يمكنني القول: بأن حضارة اليوم وبفضل النمو الهائل في العلوم والمعارف، صارت قادرة على معالجة ما يواجهها من مشاكل بطرق علمية سليمة ستطيل من عمرها. [ ص: 215 ]
لكنها بما حقـقته من صنـاعات حربيـة، ومن أسلحة فتـاكة، فمتى ما اشتعلت حرب كونية، كالحرب العالمية الأولى أو الثانية ، فإن نهاية هـذه الحضارة ستقع، وفي مدة قصيرة جدا، تتناسب مع فتك الأسلحة الجديدة والصواريخ عابرة القارات وغيرها.
وإن ما حدث في (شارنوبل ) ومفاعلها أكبر تحذير، فهناك أربع مفاعلات، تعطل واحد منها وراح يسرب إشعاعات قاتلة، ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى ، ثم الإمكانات الكبرى، لأمكن أن يستمر الإشعاع، وقد يتبعه مفاعل آخر، وهكذا..
ولو حصلت الحرب واستعملت كافة أنواع الأسلحة الفتاكة، فإن الحياة ستنتهي على الأرض خلال ساعات. علماؤنا يقولون: من حرك ساكنا لزمه، وقد حركت حضارة اليوم مليون ساكن، والويل للعالم إذا تحركت كل السواكن، وتفجرت كل الأسلحة،
فهنا يصدق قول الحق: ( وإذا البحار سجرت ) (التكوير:6) .
وتسجير البحار اشتعالها، ولن يشتعل الماء إلا بفعل مادة كيماوية تجعله كذلك، وعلينا أن نتصور اشتعال المياه كافة، فستتحول الأرض إلى جهنم حمراء، فتموت جميع الأحياء، صغيرها وكبيرها، وخلال مدة وجيزة، وقد تكون نهاية عالمنا، وبداية الحياة الثانية. [ ص: 216 ]
وقد يكـون قـول الله تعـالى: ( قل هـو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) (الأنعام:65) ، قد تكون صورة قريبة، حيث ينصب العذاب على الرءوس، وتتفجر الأرض، وقد تنقسم الأمم والشعوب إلى جماعات متناحرة، يضرب بعضها بعضا، فلا تكون حياة ولا نجاة، ليس للإنسان فقط، ولكن لجميع الأحياء.
إن حضارة زودت إنسانها بكل وسائل الدمار الشامل، التي لا تبقي ولا تـذر، والتـي لا ترحـم إنسـانـا ولا حيـوانا ولا نبـاتا، لا تتـرك فـيـلا ولا بعوضة.
ويصور الله جل وعلا نهاية الحضارة،
فيقول: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) (يونس:24) .
قد يعترض معترض فيقول: أين علامات الساعة؟
فأسارع للقول: أنا أتحد ث عن نهاية حضارة اليوم، وليس نهاية العالم، فقد يتم تدمير هـذه الحضارة بمنجزاتها، فيعود العالم قرونا إلى الوراء، وهذا ما أقصده وأعنيه. [ ص: 217 ]