أولا: إيجاد الحكم الصالح:
السعي لأجل الوصول إلى حكم صالح ومؤسسة سياسية صالحة لإدارة البلاد واجب كفائي ، لابد أن يأخذ موقعه في العقلية المسلمة والمتدينة، أو الفكر الديني الإصلاحي، الذي يسعى لترشيد المجتمع.. فالتدين هـو الدافع المهم والمحرك القوي للطاقات والقدرات وأدوات السعي نحو حكم صالح ومؤسسة سياسية صالحة، بالطرق الحكيمة التي لا تمس المصالح العامة بسوء، والتي تنظر في جدوى العمل والوسائل المستخدمة وانعكاساتها على الساحة، وعدم الخوض في مغامرات غير مدروسة العواقب على مستقبل الشعوب، بل المطلوب [ ص: 98 ] هو الدقة والموازنة بين المصالح وبين المفاسد والمضار؛ ليس اعتمادا على تقديرات فردية في ذلك، بل لا بد أن يكون هـذا التقدير والموازنة من طرف مؤسسة أهل الرأي والفكر والتدبير وبعد النظر والدقة والموضوعية في الأمر.
إن هـذا السعي، بكل أبعاده، هـو -كما أسلفنا- من الواجبات الكفائية ، التي يدخل فيها أيضا استخدام الوسائل الناجعة والمثلى للوصول إلى حكم صالح، الأمر الذي يقتضي النظر في حكم هـذه الوسائل شرعا، كما يقتضي استخدام الوسائل المشروعة في الوصول إلى الأهداف؛ لأن الغاية في الشريعة الإسلامية لا تسوغ الوسيلة؛ كما أنه لابد أن ينظر في هـذه الوسائل نظرة موضوعية ثاقبة تنبع من علم شرعي أصيل، وقدرة اجتهادية على الاستنباط، ومعرفة بالواقع المعاصر معرفة صحيحة ودقيقة، وذلك لأن بعض أصحاب الرؤى الضيقة يحرم استخدام بعض المنابر وأوعية العمل الإصلاحي، كالمشاركة في مؤسسات «المجتمع المدني» مثل الاتحادات والنقابات...إلخ، وبذلك تفوت هـذه الفئة على نفسها ميدانا مهما من ميادين العمل، وتنغلق على ذاتها، وتقلل من فرص النجاح أمامها، فتبقى على هـامش المجتمع، وعلى هـامش مجريات الأمور، وقد قضت على نفسها بنفسها، وقد [ ص: 99 ] تكون هـذه الفئة مخلصة النية، صادقة في التقرب إلى الله عز وجل ، لكن رب قاصد خير يضر بالمصلحة الإسلامية.
والناظر في هـذه الوسائل لابد أن يأخذ بعين الاعتبار مقصد الشارع في التيسير والتخفيف على الأمة، واستصحاب ضرورات الدعوة والإصلاح ومبدأ أن الأصل في الأمور الإباحة.. وأرى أنه قد يجانبنا الصواب إذا راعينا في التخفيف الضرورات الفردية، ولم نراع الضرورات الاجتماعية، التي هـي أولى بالنظر، خاصة إذا استصحبنا قصد الشارع وسن التشريعات لحفظ المصالح العامة ، حيث إن التشريعات الإسلامية حمت المصالح العامة أكثر مما حمت مصالح الأفراد، وحتى عند التعارض حمت المصالح العامة، وذلك كتحريم الربا والاحتكار، وانتزاع الملكية الفردية عن العقار إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، كتوسعة المسجد، وتوسعة الطريق... إلخ.
إن إنشاء المؤسسة السياسية، التي تكون صالحة وقادرة على حفظ المصالح العامة أمر ضروري تقتضيه الظروف السياسية المعاصرة، حيث إن سيطرة الفرد وعطاءه ما كاد يفي بضرورات التقدم والنمو والمواكبة، ولا بد من إيجاد قنوات متشابكة ومكملة وموزعة للأدوار لتوفير المشورة والتخطيط والبدائل والأثر ورد الفعل [ ص: 100 ] المتوقع، والوقت المناسب للقرارات، وخطوات التنفيذ، وغير ذلك من الأمور التي تحتاج إليها مؤسسة صنع القرار، الأمر الذي يزيد من حجم المسئولية ويقلل من أخطاء الارتجال التي تقع فيها أكثر قيادات العالم الإسلامي، سواء على مستوى حركات الإصلاح أو على مستوى المؤسسة السياسية، لذلك فإن إنشاء وإيجاد قنوات داعمة لقيام الحكم الصالح هـو من الواجبات الكفائية ، كما أن السعي نحو تقليص حكم الفرد، أو الفردية والاستبداد بالرأي هـو الآخر واجب كفائي ، وهو من مقتضيات الحكم الصالح، الذي تقتضيه وتمليه ضرورات التنمية والتقدم لمجتمعاتنا.
ولقد جعلت الشريعة الإسلامية للحكم الصالح صفتين أساستين: القوة، والأمانة، لا بد من توافرهما في شخص الحاكم.. ولذلك، وفي ظل التحديات المعاصرة والجو التنافسي في الأداء الجمعي والدولي، تبقى إقامة المؤسسة السياسية، التي تكون قادرة على العمل بموضوعية وتجرد لخدمة مصالح الوطن، هـو صمام الأمان والعنصر المساعد والمحافظ للحكم الصالح الذي يتوافر فيه عنصرا القوة والأمانة.
القوة، بمعنى القدرة على العطاء والإبداع في إيجاد الحلول للمشكلات الحادثة والمستجدة، والقدرة على اكتشاف القدرات [ ص: 101 ] وتنميتها وتفعيلها لرفع الإنتاجية المجتمعية، التي تمكن الدولة والأمة من العيش الكريم وسط التنافسات الدولية، والمقدرة على الإنتاج البشري العالي المستوى والمؤثر، إضافة إلى قدرة المؤسسة السياسية على اكتشاف الخلل والخطأ والضعف في السياسات والممارسات، وهذا الأمر يتطلب أن تتوفر للمؤسسة السياسية إحصاءات دقيقة عن جدوى السياسات وعن مستوى الأداء في القطاعات المختلفة، وأن لا يكون اعتمادها في هـذه الإحصاءات على المؤسسات التابعة للدولة، بل عليها أن تشجع مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات البحث العلمي المستقلة، على حسن قراءة سياسات المؤسسة السياسية وأدائها، للإفادة منها في التصويب والإصلاح، كما عليها أن تفسح المجال لحرية البيان والتعبير والنقد، في إطار القانون؛ ولابد للمؤسسة السياسية كذلك أن تدرك أن وضع الأصابع على الأخطاء عنصر إيجابي في مسيرة الأمة نحو التقدم، وأن المدح على الأفعال لا يحول الخطأ إلى صواب.
ويحمل ذلك كله الكثير من الدلالات الواضحة على خطأ سياسات القمع ومصادرة الحريات والتضييق على أهل الرأي والفكر، كما يدل دلالة واضحة على أن من مؤشرات الحكم الصالح إفساح [ ص: 102 ] المجال أمام أهل الرأي والفكر لإبداء آرائهم حول أداء المؤسسة السياسية، ونقد سياساتها، بكل جرأة ودون خوف على منصب أو وضع اجتماعي.
والمؤسسة السياسية الصالحة، لا يكفي في حقها رفع اليد وعدم التضييق على هـذه النخبة من المجتمع، بل عليها أن تشجعهم على إبداء آرائهم، وأن تفتح لهم قنوات التعبير، وتوفر لهم الحماية اللازمة لتمكنهم من ذلك، حتى يساعدوا المؤسسة السياسية نفسها على معرفة عيوبها، ومن ثم يساعدوها على تصحيح مسارها، وتمكينها من خدمة الشعب والحفاظ على مصالحه وتحقيق آماله.
وبذلك تصبح حركة النقد وطالبو الإصلاح عناصر بناء، ويعتبر تحركهم تحركا إيجابيا تجاه المؤسسة السياسية، ولا يوجد مسوغ للتضييق عليهم؛ كما يعتبر هـذا التحرك تحركا إيجابيا إيمانيا إسلاميا إصلاحيا، تقتضيه حقوق الأخوة الإنسانية والمعايشة والمواطنة والمصير المشترك، إبداء للقناعات الداخلية والتعبير عنها بصدق وإخلاص وتجرد، وبعيدا عن النفاق وإظهار ما يخالف قناعاته الداخلية.
لذلك نقول: إن النخبة من أهل الرأي والفكر من أفضل وأخلص أبناء الوطن، يستحقون التكريم وليس الزج بهم في السجون، أو محاولة تهميشهم، أو العزم على تصفيتهم جسديا. [ ص: 103 ] وأما الأمانة، فهي بمعنى تجرد المؤسسة السياسية الكامل لمصالح الأمة، وفي توجهها لتحقيق المصالح العامة وتنميتها والتصدي لها، لاتضحي بالمصالح العامة لأجل المصالح الشخصية أو الحزبية أو الأسرية... إلخ، بل يكون نصب أعينها مراعاة مصالح الأمة في التوظيف، والمكافآت، وإبرام العقود، وتطبيق القوانين، ووضع الميزانيات... إلخ.
إن إيصال الحكم إلى هـذا المستوى من الواجبات الكفائية ، هـدف لا بد أن يسعى أهل الرأي والفقه في الأمة للوصول إليه وتحقيقه، وأن يسعى أهل الفكر والرأي والتوجيه لترسيخ مفاهيمه، وذلك ببيان: أن السعي إلى إحداث حكم صالح من الواجبات المجتمعية، التي تعتبر من أخطر الثغرات التي أصيبت الأمة من قبلها، وإذا تقاعست الأمة عن هـذا السعي وإقامة هـذا الواجب تكون آثمة إثم ترك واجب.
من هـنا نخلص إلى أنه لا وسيلة لنجاة الأمة وخلاصها من الوضع الأليم الذي تعيشه إلا بإيجاد الحكم الصالح (المؤسسة السياسية الصالحة) الذي يتفاعل مع مشكلات الأمة وآلامها، ويسعى سعيا جادا وحثيثا، بكفاءة ذاتية عالية، وقدرة بشرية فائقة، لتحقيق آمالها وتطلعاتها. [ ص: 104 ]