الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا: أنواع الواجب:

ينقسم الواجب إلى أنواع مختلفة، باعتبارات متفاوتة: باعتبار تعيين المطلوب، وباعتبار تقديره وتحديده، وباعتبار وقت أدائه، وباعتبار المكلف بأدائه؛ وذلك على النحو التالي: [ ص: 35 ]

1- الواجب باعتبار تعيين المطلوب وعدم تعيينه، وينقسم إلى:

أ- واجب معين : وهو ما طلبه الشارع بعينه من غير تخيير بين أفراد مختلفة، كالصلاة والصيام والحج ونحوها، وهذا لاتبرأ الذمة منه إلا بفعله بعينه.

ب- واجب مخير : وهو ما طولب المكلف فيه بواحدة من عدة أمور مختلفة ككفارة اليمين، في قوله تعالى: ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) (المائدة:89) فإن الحانث مخير ابتداء بين الأمور الثلاثة وتبرأ ذمته بأي واحد منها.

2- الواجب باعتبار تقديره، وينقسم إلى قسمين:

أ- واجب محدد : وهو ما عين له الشارع قدرا محددا لا تبرأ الذمة إلا بأدائه، كالصلوات الخمس والزكاة والديون المالية، وهذا [ ص: 36 ] النوع يجب في الذمة وتصح المطالبة به قضاء متى كان له مطالب من جهة العباد.

ب- واجب غير محدد : وهو ما لم يعين الشارع له قدرا محدودا، كالإنفاق في سبيل الله، والتعاون على البر، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك مما يختلف باختلاف الحاجة، وهذا لا يجب في الذمة ولا يصح التقاضي به.

3- الواجب باعتبار وقت أدائه، وينقسم إلى قسمين:

أ- واجب مطلق : وهو ما لم يعين الشارع لأدائه وقتا، ويكون مطلقا عن الزمان، كالكفارات ونذر صوم في وقت غير معين، وتبرأ الذمة في هـذا بالأداء في أي وقت.

ب- واجب مؤقت أو مقيد بالزمان : وهو ما عين الشارع لأدائه وقتا محددا، كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، والحج.

والواجب المؤقت نوعان:

- موسع: وهو ما يسع مع الواجب غيره من جنسه، كأوقات الصلوات، فوقت الظهر مثلا موسع؛ لأنه يسع صلاة الظهر وغيرها من الصلوات. [ ص: 37 ]

- مضيق: وهو ما لايسع مع الواجب غيره من جنسه، كصوم رمضان للصحيح المقيم، فإنه لا يسع من الصيام إلا المفروض فيه. [1]

4- الواجب باعتبار المكلف بأدائه:

وينقسم إلى قسمين: واجب كفائي وواجب عيني :

ينقسم الواجب من حيث تعيين من يجب عليه إلى: واجب عيني وواجب كفائي .. يقول الإمام القرافي : الأفعال قسمان: منها ما تتكرر مصلحته بتكرره، ومنها ما لا تتكرر مصلحته بتكرره. [2] فالقسم الأول: شرعه صاحب الشرع على الأعيان، تكثيرا للمصلحة بتكرر ذلك الفعل، كالصلوات الخمس، فإن مصلحتها الخضوع لله تعالى، وتعظيمه، ومناجاته، والتذلل له، والمثول بين يديه، والتفهم لخطابه، والتأدب بآدابه، وهذه المصالح تتكرر كلما كررت الصلاة. [ ص: 38 ]

والقسم الثاني: كإنقاذ الغريق، فإنه إذا انتشل من البحر فالنازل بعد ذلك إلى البحر لا يحصل شيئا من المصلحة، وكذلك كسوة العريان وإطعام الجائع ونحوهما، فجعله صاحب الشرع على الكفاية نفيا للعبث في الأفعال إذ لا فائدة في الأعيان بالنسبة لها. [3]

1- تعريف الواجب الكفائي [4] :

هو ما يطالب بأدائه مجموع المكلفين، وإذا قام به بعضهم سقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يفعله أحد أثموا جميعا، كالذي يجب للموتى من غسل وتكفين وصلاة ودفن، وما يجب لخير الجماعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنقاذ الغريق والقضاء والإفتاء وأداء الشهادة وأنواع الصناعات، [ ص: 39 ] قال الشاطبي ، رحمه الله: «الولايات العامة، والجهاد، وتعليم العلم، وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات » [5] هذا ما قاله العلماء السابقون، فيدخل في الواجبات الكفائية في عصرنا هـذا: التصدي لحفظ المصالح العامة بصورة شاملة، والتي تشمل التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، من الصناعة والزراعة وكل ما يحتاجه المجتمع لحفظ كيانه وقيمه ومصالحه، وبلغة العصر: التحرك وفق الاستراتيجية القومية الشاملة التي تحقق الأمن القومي والإقليمي للأمة.. وهذا التحرك، وفق مقتضيات هـذه الاستراتيجية، هـو من الواجبات الكفائية، وكل فرد في الأمة مسئول عن ذلك ويأثم بتقاعسه عنه.. وتنظيم الأفراد للقيام بهذه الوظائف، وفق قدراتهم وطاقاتهم، من وظيفة الدولة والقائمين على الأمور؛ وعلى الأفراد إعانة القائمين على الأمر والقائمين على الواجبات الكفائية المتعددة، وبهذا يتحول التدين الصحيح إلى مشروع تنمية بشرية، وتحرك حضاري إنساني يحرك الجهود كلها وفئات المجتمع كله نحو الصالح العام.. وبهذا يكون كذلك القضاء على الأفهام المنغلقة والسطحية [ ص: 40 ] عن الدين والتدين الانعزالي، الذي يكرس التخلف والتبعية والانجرار وراء (الآخر) .

وإنما سمي واجبا كفائيا لأنه يكفي في حصول المطلوب به قيام بعض المكلفين بفعله دون بعضهم، ولهذا فإن ذمة من لم يفعل هـذا الواجب تبرأ بفعل غيره، وإن لم يقم به أحد مطلقا فإن الإثم واقع على الجميع [6] .

2- تعريف الواجب العيني:

هو ما يطالب بأدائه المكلفون كلهم، وإذا فعله بعضهم لم يسقط الطلب عن الآخرين، كالصلاة والصوم... إلخ.

وإنما سمي هـذا الواجب عينيا ؛ لأن الخطاب يتوجه إلى كل مكلف بعينه، بحيث لو عجز عن فعل الواجب لم يطلب الفعل من غيره، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بفعله، حتى ولو أداه جميع المكلفين دونه لا يسقط التكليف عنه. [7] والواجب الكفائي ينقلب عينيا إذا كان المطالب به واحدا، فإذا لم يكن في البلد إلا طبيب واحد، كان إسعاف المريض واجبا عينيا [ ص: 41 ] عليه؛ وإذا حضر استغاثة الغريق سباح واحد تعين عليه إنقاذه... وهكذا [8] .

وذلك لأن الواجب الكفائي يريد به الشارع وقوع الفعل الذي يحقق المصلحة ويدفع الضرر، سواء قام به واحد أو جماعة أو المكلفون به جميعا، فإذا لم يكن القادر عليه إلا واحدا لزمه القيام بهذا الواجب، وكان عينيا تشغل ذمته به حتى يقوم به، وإلا أثم وكان مذنبا معاقبا [9] قال الشيرازي ، رحمه الله: «وإن كان في موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه؛ لأنه لا يحصل المقصود إلا به، فتعين عليه» . [10]

3- امتداد الواجب الكفائي:

لا تنتهي المسئولية في الواجبات الكفائية بمجرد تحمل الواجب الكفائي وتعيينه على الأفراد، بل هـناك امتدادات لهذه الواجبات، تقتضي من الأمة ممثلة في قياداتها ومؤسساتها المختلفة المسئولية والمساندة، لأجل القيام بهذه الواجبات الكفائية إلى درجة الاكتفاء والتنافس مع الكيانات والتجمعات البشرية الأخرى.. ويشمل ذلك: [ ص: 42 ]

أ- حمل القائمين بالواجبات الكفائية وإعانتهم للقيام بها على النحو الأمثل، فإذا تعين الواجب الكفائي على شخص أو فئة، فإن واجب الأمة هـنا يتمثل في حمل القادر أو المتعين عليه، على مباشرة الواجب الكفائي وإعانته، حتى يتمكن من القيام به إلى درجة اكتفاء الأمة من الحاجة إلى تحقيق تلك المصلحة أو درء المفسدة.

وطرق حمل المتعين على الواجب الكفائي وإعانته كثيرة ومتعددة، من: الدعاء، والتشجيع، والمساهمة في الإعداد، والنصح، والنقد، والمحاسبة، وإحداث كيانات الضبط والضغط ومؤسساتهما.. وهذه الوسائل تتجدد بتجدد الزمان، الأمر الذي يستدعي الاجتهاد الدائم والسعي المستمر لتحديث هـذه المؤسسات، ورفع مستواها وجدواها، والأخذ بتجارب الآخرين في هـذا المجال.

كل ذلك تحقيقا لمقاصد الشارع من سن الواجبات الكفائية وحمل المتعين والقادر على القيام بها.. يقول الشيخ محمد الخضري بك ، رحمه الله: «الواجبات الكفائية، إذا ورد من الشارع طلب شيء منها فإنما يوجه إلى البعض القادر على العمل، وعلى بقية الأمة أن تحمل هـؤلاء على العمل إذا هـم تهاونوا في القيام به، فالمستعدون مكلفون بمباشرة العمل، والباقون مكلفون بحمل القادرين على العمل بمباشرته». [11] [ ص: 43 ]

ب- متابعة الواجبات الكفائية والتأكد من إقامتها بقدر الكفاية، وهذا الأمر يقتضي تفعيل مؤسسات البحث والإحصاء ومرافقها، في المجالات المختلفة، لقياس الأداء والإنتاج في مرافق الحياة العامة، ومدى كفايتها وإتقانها لسد حاجة الأمة، وأهم المرافق في ذلك هـو التعليم والبحث العلمي والصناعة والخدمات والإدارة، ويلزم من هـذا إصدار تقرير عن التنمية في البلاد، وبيان مستوى الأداء فيها، يساعد أصحاب القرار ومؤسسات التأثير على التحرك السليم.. كما يقتضي الأمر الوقوف، بوساطة مراكز البحث العلمي، على مستوى الأداء والإنتاج والتوجهات للكيانات البشرية الأخرى ومعرفة مدى الموقف التنافسي، وكذلك معرفة الفارق التنافسي العالمي والإقليمي.

4- تقسيمات الواجبات الكفائية:

اجتهد العلماء في تقسيمات الواجبات الكفائية، فذهب أغلب الأصوليين إلى التقسيم الثنائي للواجبات الكفائية، وقسموها إلى واجبات دينية وواجبات دنيوية.. أما الواجبات الدينية، فيقصدون بها الواجبات العبادية المحضة كصلاة الجنازة، التي تشتمل على جانب إنساني وآخر عبادي، حيث إن عملية الدفن وظيفة إنسانية قد حماها [ ص: 44 ] الإسلام بتشريعات دينية.. وأما الواجبات الدنيوية، فيقصدون بها المصالح العامة، كالصنائع التي يحتاج إليها. [12] وقد خالف إمام الحرمين والغزالي فيما يختص بالواجبات الكفائية الدنيوية، إذ رأيا أن الطبع يحث عليها، فأغنى عن حث الشارع بالإيجاب، ولكن المحققين من العلماء قد رجحوا اعتبارها من الواجبات الكفائية التي أوجب الشارع التصدي لها. [13] ولعل هـذا الخلاف كان في العصور المتقدمة، التي كان حث الطبع يغني عن حث الشارع بالإيجاب، والجهود الفردية تكفي في التصدي لاحتياجات الأمة وضروراتها، ولكن في عصرنا هـذا فإن المصالح العامة ضائعة أو متعثرة، والأمة قد تضررت كثيرا من هـذا الضياع، الذي أدى إلى تفوق الأمم الأخرى علينا في مجالات الحياة المتعددة (المصالح العامة) .. وهذا التفوق، أدى من جانب آخر إلى تكبيل الأمة، وسلب كثير من حرياتها في إدارة شؤونها والتصدي لمصالحها والسعي لحل مشكلاتها. [ ص: 45 ] وإذا كان الناس يمارسون الصناعة والزراعة والتجارة في حدود الضرورات الفردية أو المجتمعية الضيقة، التي تغطي احتياجات الناس السوقية وقوام المعاش الضروري، إلا أن هـذه الممارسة الفردية أو المجتمعية الجزئية ليست في إطار تناسق وخطة عمل جماعية شاملة ترفع من إنتاجية الأمة، وتحافظ على ميزان مدفوعاتها، وتوجه الصناعة والزراعة لحماية أمنها القومي، وتصل بها إلى درجة الاكتفاء الذاتي ، في جميع المجالات، حتى لا تؤتى الأمة من ثغرة ضغط الحاجة، فذلك مما لا يمكن الاكتفاء فيه بحث الطباع عليها، بل إن التصدي لكثير من هـذه الأمور أرفع من قدرات الفرد وطاقاته، بل من قدرات الدولة القطرية ، وإنها من وظيفة طاقات الأمة وكياناتها واستراتيجيتها الإقليمية، وتحتاج إلى تجميع الجهود وتنسيق الخطط وتوزيع الأدوار لأجل التصدي لها، والسير وفق مقتضياتها، وهنا يكمن السر في إمكانيات النهوض، أو السير نحو قوقعة التخلف والتعبية. وهنا يكمن كذلك السر في واقعنا الأليم وعدم قدرتنا على تمثل الدور الريادي والقائد وسط الأمم.

وقد قسم الشاطبي ، رحمه الله، الواجب الكفائي تقسيما آخر، وهو كذلك تقسيم ثنائي، ولكن دون التعرض إلى تقسيم الواجبات [ ص: 46 ] إلى دينية ودنيوية، وأرى أنه في هـذا الإغفال للتقسيم السابق قد نحى منحا جيدا؛ لأن الشريعة جاءت وهي تربط الدنيا بالدين والآخرة، وجاءت لتنظيم الحياة العامة وفق مقاصد الدين والتصدي لضرورات المجتمع المادية والمعنوية.. فهو، رحمه الله، قسم الواجب إلى ما يختص بباب من أبواب الشريعة، كالولايات العامة والجهاد وتعليم العلم وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات قاصرة على بابها؛ وإلى ما لا يختص بباب من أبواب الشريعة، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو واجب كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة، غير مختص بباب من أبوابها [14] .

وتقسيم الإمام الشاطبي ، رحمه الله، يدل على عمق فهمه لمقاصد الشريعة، حيث يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملا ومكملا لجميع أبواب الشريعة، لا يختص بباب دون آخر، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل نواحي الحياة كلها، فالنقد والتصحيح في نواحي الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبذل الشورى هـو أمر بالمعروف ، والتحذير من الإخفاقات في مجال الإدارة نهي عن المنكر ، والسعي [ ص: 47 ] لتقويم الأداء في مختلف قطاعات المجتمع من طرف أهل الخبرة والاختصاص هـو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر... وذلك حتى يصبح هـذا الواجب قوة دافعة نحو الارتقاء والإتقان ومراجعة الذات، ويصبح هـذا الواجب تحصينا عن تكرار الأخطاء، وتمركز الأمراض، وشيوع الإخفاقات.

أما الإمام الغزالي ، رحمه الله، فقد قسم الواجبات الكفائية ثلاثة أقسام:

- القسم الأول: ما يتعلق بمحض الدين، كإقامة الدعوة الحجاجية بالعلم، فلا ينبغي أن تخلو خطة الإسلام عنه، وهذا يتعلق بأصل الدين.. ومنها ما يتعلق بفروع الدين وشعائره كإحياء الكعبة بالحج كل عام، وإشاعة الأمر بالمعروف، ورد السلام، وهو من الشعائر، وإن لم تتعلق به مصلحة كلية بل مصلحة حسن المعاملة.

- القسم الثاني: ما يتعلق بالمعاش، كدفع الضرر عن محاويج المسلمين وإزالة فاقتهم إن كان ضرورة، بعد تفرقة الزكوات، فإزالتها من فروض الكفاية ، وإن كان حاجة ففي وجوب إزالتها تردد.. وأما البياعات والمناكحات والحراثة والزراعة وكل حرفة لا يستغني الناس عنها لو تصور إهمالها لكانت من فروض الكفايات ، حتى [ ص: 48 ] الفصد والحجامة، ولكن في بواعث الطباع مندوحة عن الإيجاب؛ لأن قوام الدنيا بهذه الأسباب، وقوام الدين موقوف على قوام أمر الدنيا ونظامها لا محالة.

- القسم الثالث: ما هـو كالمركب من القسمين، كتحمل الشهادات، وإعانة القضاة على توفية الحقوق، وتجهيز الموتى ودفنهم وغسلهم، وهذه مصالح ولكن يتعلق بها أيضا إظهار شعائر الدين [15] .

5- أمثلة على الواجبات الكفائية:

العلماء في العصور المتقدمة من التاريخ الإسلامي، ضربوا لنا أمثلة على الواجبات الكفائية ، تشمل في مجموعها توفير احتياجات المجتمع المختلفة والمتنوعة في تلك العصور، من ذلك:

القيام بإقامة الحجج والبراهين القاطعة على إثبات الصانع وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه، وإثبات النبوات، ودفع الشبه والمشكلات، والاشتغال بعلوم الشرع من تفسير وحديث وفقه، والتبحر في ذلك، وتصنيف الكتب لمن منحه الله فهما واطلاعا، وحفظ القرآن والحديث، ونقل السنن، والاجتهاد، [ ص: 49 ] والتعليم، والإفتاء، وتولية القضاء، وتحمل الشهادة وأداؤها، وتولي الإمامة العظمى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودفع ضرر المحاويج من المسلمين وأهل الذمة ، وإغاثة المستغيثين في النائبات، وإقامة الجماعة والأذان والإقامة ، وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، والتقاط المنبوذ، ورد السلام حيث المسلم عليه جماعة، والتصدي لاحتياجات المجتمع كالحرف والصناعات وما به قوام المعاش، وما لابد منه حتى الحجامة والكنس، كما عدوا من فروض الكفاية الاشتغال بعلم الطب.

ومن لطف الله عز وجل أن جبلت النفوس على القيام بهذه الواجبات، لما في الخلق من تنوع وتفاوت في القدرات والميول الوظيفية والحرفية، ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا جميعا.

وهذه الأمثلة التي ضربها الفقهاء إنما هـي على سبيل المثال وهي ما يناسب حاجات مجتمعاتهم، وبالإمكان أن نضيف إليها قائمة أخرى مما استجد من حاجات في عصرنا، مثل:

التركيز على دفع الشبهات التي تثيرها المذاهب الفكرية المعاصرة، والتجديد في وسائل إقامة الحجج والبراهين، وفقا لمنطق العصر [ ص: 50 ] وعلومه؛ والاشتغال بعلوم الشرع من منطلق تطبيقها على الحياة المعاصرة؛ وتصنيف الكتب وفقا لمخطط يسد الثغرات الناشئة عن توقف الحياة الفكرية بسد باب الاجتهاد لعدة قرون؛ واستخدام مختلف الوسائل لتيسير وصول القرآن والحديث والعلوم الشرعية إلى الناس، من موسوعات ومعاجم وفهارس وأدمغة إلكترونية ووسائل الاتصال الأخرى؛ وإقامة مؤسسات الاجتهاد الجماعي، ومؤسسات إعداد المجتهدين، بما يكفل ازدهار الاجتهاد وأداء وظيفته؛ وإقامة مؤسسة الإمامة ، بما يكفل وحدة المسلمين وتعاونهم وتطبيق الشورى ؛ والاكتفاء الذاتي في الصناعات والتكنولوجيا؛ وإقامة مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضمن أنظمة متخصصة متطورة في شكل مؤسسات ما يسمى « المجتمع المدني » تمارس التعبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمارس الضغظ أو الضبط للمؤسسات التنفيذية وتقدم المشورة والبدائل للاختيار، وإقامة المؤسسات الكفيلة بتأمين ضرورات المعيشة وتنظيم التأمينات الاجتماعية بكافة صورها لجميع المواطنين. [16] [ ص: 51 ]

- مقاصد الشرع في الواجبات الكفائية والعينية:

مقصد الشارع في الواجبات العينية هـو إصلاح الشخص واستقامته بالدرجة الأولى، وإن كانت الواجبات العينية في شريعة الإسلام تخدم الحياة الاجتماعية العامة وتساعد في إحداث التضامن والتكاتف والتكافل الاجتماعي.. أما مقصد الشارع في الواجبات الكفائية هـو حفظ مصالح الناس العامة وما يتعلق بالأمور الضرورية المجتمعية، في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. وإذا أردنا التفصيل نقول:

إن قضايا الخلافة والإمارة واختيار القوي الأمين، والقيام بعمليات النصح والنقد، والاحتساب في الحياة العامة، بعد المراقبة والرصد والوقوف على الأخطاء، بوساطة إنشاء وتكوين المؤسسات الكفيلة بذلك؛ وقضايا التعليم وتوفير الكفاءات الضرورية للدولة، المعافاة وغير المتكففة على العالم الخارجي، ثم الاستفادة العظمى من هـذه الكفاءات، بعيدا عن الولاءات التي لا تخدم المصالح الوطنية؛ وتوجيه البحوث والدراسات نحو قراءة الأخطاء والتخبطات، قراءة موضوعية، واكتشاف العوامل والأسباب التي أدت وتؤدي إليها؛ ومقترحات العلاج للحال، والوقاية للمستقبل؛ وقضايا الصناعة في مجالات التعمير والرخاء الاقتصادي، وتحويل المواد الخام بعد تحديدها [ ص: 52 ] إلى مواد مصنعة قابلة للاستعمال الوطني بما يحفظ الهوية؛ وقضايا الإعداد والدفاع تخويفا لمن لايحترم مبادىء السلم والاعتدال ويتحرك من موقع الغلبة ولغة القوة، كل هـذه الأمور من المصالح العامة التي أوجب الشارع التصدي لها.

ولقد أشار العلماء، قديما وحديثا، إلى هـذه المقاصد في الواجبات الكفائية ، ونذكر، على سبيل المثال، أقوال بعضهم، رحمهم الله :

يقول الشاطبي : «... أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق» [17] .

ويقول العز بن عبد السلام حول مقصود الشارع في الواجبات العينية والكفائية: «واعلم أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه، والمقصود بتكليف الأعيان حصول المقصود لكل واحد من المكلفين على حدته، لتظهر طاعته أومعصيته، لذلك لا يسقط فرض العين إلا بفعل المكلف، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به دون من كلف به في امتداد الأمر» . [18] [ ص: 53 ] ويقول الغزالي : «وإنما يصير الفرض على الكفاية لا على التعيين إذا كان الشيء مقصود الحصول في نفسه للشرع ولم يكن الشخص مقصودا بالامتحان» . [19] ويقول السيوطي : « فروض الكفاية أمور كلية، تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فطلب الشارع تحصيلها لاتكليف واحد بعينه» . [20] ويقول ابن بدران : «فهذا هـو المسمى بفرض الكفاية، وهو ما مقصود الشارع فعله لتضمنه مصلحة لا تعبد أعيان المكلفين به، كصلاة الجنازة والجهاد ، فإن مقصود الشرع فعلهما لما تضمناه من مصلحة الشفاعة للميت وحماية بلاد الإسلام من استباحة العدو لها، ولم يرد بهما تعبد أعيان المكلفين، كما أراد ذلك بالجمعة والحج.. ففرض الكفاية وفرض العين مشتركان في التعبد والمصلحة، والفرق بينهما أن المقصود في فرض الكفاية تحصيل المصلحة التي تضمنها، من أي شخص حصلت كان هـو المطلوب، وفي فرض العين تعبد الأعيان بفعله» . [21] [ ص: 54 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية