الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
سابعا: إقامة مؤسسات الاجتهاد الجماعي:

يتطلب الاضطلاع بالواجبات الكفائية إقامة مؤسسات الاجتهاد الجماعي، التي تجتهد في تطوير الوسائل المؤدية إلى رفع مستوى الأداء في الواجبات الكفائية ، وإيجاد المؤسسات الكفيلة بالعون والتقويم، التي تقوم بواجب حمل المتعين على الواجبات الكفائية، والمؤسسة [ ص: 128 ] السياسية هـي المسئولة عن أغلب الواجبات الكفائية وإقامتها، والتي يجب على الأمة إعانتها على القيام بواجباتها، بما في ذلك النصح والإرشاد والمشورة ونحوها.

ومؤسسات الاجتهاد الجماعي، يمكن أن تبصر الأمة بأبعاد التدين وشموله وأهميته لضبط مسيرة الحياة العامة، وإخراجها من الانكماش والاقتصار على الفروض والواجبات العينية الفردية.. وتفتح الجهود المشتركة للعلماء في الفتوى الجماعية للتصدي للواجبات الكفائية، الأبواب لتحقيق آمال الأمة في تجنيد أفرادها كلهم نحو الصالح العام والوقوف في ثغرة حتى لايؤتى المسلمون من قبلها، سواء كان ذلك في الطب أو الصناعة أو الزراعة أو غيرها، حيث يتقن كل فرد عمله، ويبدع في عطائه، ويسعى متجردا لتقديم العطاء الأفضل للأمة، بغض النظر عن ضروراته واحتياجاته وريعه الشخصي والفردي من العمل والعطاء.

إن فهم هـذا الأمر مهم وضروري، حيث إن جهد الفرد ليس لأجل سد حاجاته الفردية الاقتصادية فقط، كما يفهم بعض أصحاب التصور الضيق، بل لرفع مستوى الإنتاجية الجماعية للأمة في ساحة التحديات الإنتاجية التي تواجهها بين الأمم، بعد سد الثغرات الذاتية على مستوى الاحتياجات الداخلية، وبهذا المنوال يصبح العمل [ ص: 129 ] المستمر عبادة مستمرة، أداء للواجب، وإرضاء لله عز وجل ، وتعميرا للأرض، وإعلاء لكلمة الله، وتمثيلا للأمة الوسط الشاهدة على الأمم.

وبناء على هـذا، وتجديدا لأمر الدين في حياة الناس، ذكر غير واحد من العلماء أن الاجتهاد في كل عصر فرض من فروض الكفايات ، وأنه لا يجوز إخلاء العصر منه.. وقد ذكر السيوطي ، رحمه الله، [1] أقوال العلماء في ذلك، ونقل عن الإمام الشافعي أنه نهى عن التقليد وتقليد غيره، وقال: لا شك أنه لا يمكن نهي الخلق بأسرهم عن التقليد؛ لأن العوام يجوز لهم التقليد بالإجماع، وإنما نهى الشافعي، رحمه الله، أن يطبق أهل العصر كلهم على التقليد، لأن فيه تعطيل فرض من فروض الكفايات وهو الاجتهاد، فحث على الاجتهاد ليكون في كل عصر من يقوم بهذا الفرض [2] .

قال الماوردي : «فلذلك وجب الاجتهاد على من تقع به كفاية ليكون الباقون تبعا ومقلدين»، قال تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) فلم يسقط الاجتهاد عن جميعهم ولا أمر به كافتهم. [3] [ ص: 130 ] وقال الإمام محيي السنة أبو محمد البغوي في كتابه التهذيب: «العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ، وفرض كفاية هـو أن يتعلم ما يبلغ درجة الاجتهاد ومحل الفتوى والقضاء ويخرج من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام به من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصوا جميعا، لما فيه من تعطيل أحكام الشرع». [4] وقال إمام الحرمين: «طلب العلم ينقسم قسمين: أحدهما مفروض على الأعيان والثاني على سبيل الكفاية، فأما ما يتعين طلبه، فهو ما يبتلى المرء بإقامته في الدين في الأوقات الناجزة، وأما ما يقع فرضا على الكفاية فهو ما يزيد على المتعين إلى بلوغ رتبة الاجتهاد، فإن قوام الشرع بالمجتهدين» [5] .

وقال النووي في شرح المهذب: والمجتهد المطلق هـو الذي يتأدى به فرض الكفاية .. وقال في المنهاج: ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج وحل المشكلات في الدين، وبعلوم الشرع، كتفسير وحديث والفروع، بحيث يصلح للقضاء. [6] [ ص: 131 ] وقال النووي رحمه الله كذلك: إن الاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة؛ لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، وإذا أهمل الاستنباط فإن القضاء في معظم الأحكام النازلة أو بعضها تكون معطلة، والله أعلم. [7] وإقامة مؤسسات الاجتهاد الجماعي تجمع جهود العلماء لتحصيل ظن بحكم شرعي بطريق الاستنباط، واتفاقهم جميعا؛ أو أغلبهم، على الحكم بعد التشاور [8] ، ولذلك أهمية كبرى في التشريع، فهو يحقق مبدأ الشورى في الاجتهاد، ويكون له أكبر الأثر في دقة الرأي وإصابته، وتجنب الاجتهاد الخطأ الذي قد يقع في حالة الاجتهاد الفردي.

كما أن الاجتهاد الجماعي يحقق للأمة ما فقدت بغياب المجتهد المطلق وتعذر الإجماع ، وهو يعوضها عن ذلك بالتكامل الذي يحققه المجتهدون بمجموعهم.. كما يعتبر من أنجع السبل إلى توحيد النظم التشريعية للأمة، وأفضل وسيلة لمعالجة قضايانا المعاصرة، التي [ ص: 132 ] تشابكت فيها الأمور، وتداخلت فيها العلوم، وأصبح النظر والاجتهاد فيها لا يتحقق سليما إلا برؤية جماعية. [9] والوسيلة المثلى في عصرنا لإقامة الاجتهاد الجماعي هـي المجمع الفقهي العالمي، الذي يضم أبرز العلماء في علوم الشريعة الإسلامية، ومعهم فريق من العلماء والمفكرين المتخصصين في شتى العلوم والمعارف الإنسانية، حيث يسعى المجمع إلى تحقيق مجموعة من الأهداف تصب في خانة الاهتمام بمشاكل الأمة ووضع الحلول الشرعية المناسبة لها، وفي مقدمتها التصدي للواجبات الكفائية التي أوتيت الأمة من قبلها، وكذلك السعي إلى توحيد التشريعات لكافة الأقطار الإسلامية، ليكون المجمع بذلك نواة لوحدة الأمة الإسلامية وأساسا للقائها الفكري والحضاري، وإثراء فقهها الإسلامي، على أن يلتزم في تكوينه بمجموعة من الأسس، التي تجعل منه منارة علم وأساس نهضة، بعيدا عن الأهواء والهيمنة السلطوية أو النزعات الضيقة. [10] إن الحياة الإسلامية الحقيقية تتطلب اجتهادا مستمرا في كافة المسائل التي لم تحددها الشريعة بنصوصها الظاهرة، وبذلك يصبح [ ص: 133 ] الاجتهاد وحرية الاجتهاد واجبا دينيا واجتماعيا، وهذا يعني أن على قادة الفكر في المجتمع الإسلامي أن يتقدموا بما قد يصلون إليه من نظريات وأفكار جديدة يمكن أن تؤدي بالمجتمع إلى النهضة والتقدم، وأن يبثوا هـذه الأفكار ويدعو لها بين الجماهير. [11] لذلك لا بد من التأكيد مرة أخرى أن أهمية مؤسسات الاجتهاد الجماعي تكمن في تحقيقها مبدأ الشورى في الاجتهاد، وأنها أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، كما تعوض في الوقت نفسه ما قد يتعذر علينا اليوم من قيام الإجماع، وتسد إلى حد كبير الفراغ الذي يحدثه غياب المجتهد المطلق [12] ؛ كما أنها تيسر للأمة الاجتهاد، وتمنع أسباب توقفه وإغلاق بابه، وتقي الأمة من الأخطاء التي قد تنتج عن الاجتهاد الفردي.. وهو أفضل نوعي الاجتهاد لمعالجة مستجدات الأمة، ومن أنجع السبل إلى توحيد النظم التشريعية... وأيضا، فإن الجماعية في الاجتهاد يتحقق بها التكامل بين الساعين للاجتهاد، ويتحقق بها التكامل في النظر للقضايا محل الاجتهاد. [13] [ ص: 134 ] ثامنا: تفعيل مؤسسات التخطيط الشامل:

وفي هـذا الإطار تأتي أهمية تكوين قنوات للتخطيط، يمكن أن تكون جزءا من أجهزة الدولة، بحيث تتولى مهمة التخطيط لعمران المجتمع وتنميته في المجالات المختلفة.. كما يمكن أن تنشأ كيانات أخرى، على مستوى « المجتمع المدني »، تقوم أيضا بالتخطيط لتنمية المجتمع، إما لأجل العمل وفق الإمكانات المتاحة لدى تلك الكيانات، أو لتغذية مؤسسات الدولة وتقديم المشورة إليها في مجال تحديد الأولويات....

التالي السابق


الخدمات العلمية