الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثالثا: متابعة القيام بالواجبات الكفائية:

إن مجرد تحمل الواجب الكفائي من طرف أفراد أو فئة، لا يعفي الأمة عن مسئولية القيام بالواجب الكفائي، بل يستمر هـذا الأمر وتمتد هـذه المسئولية حتى التأكد من القيام بالواجب إلى درجة الكفاية وتحقيق مقصد الشارع من سنه، ولذلك لا يكفي مجرد انتخاب الحاكم أو وجوده أو مبايعته، كما لا تنتفي المسئولية عن إقامة الواجب الكفائي في قيام الحكم المتمثل في «القوي الأمين»، عند مبايعة الحاكم ذي القدرة على أداء واجباته، بل تمتد المسئولية بصورة مستمرة ليكون الأداء وفقا للمصالح العامة.. وتكون الأمة آثمة إذا قصرت ولم تقم بأقصى جهدها لإقامة حكم صالح ذي قوة وأمانة، ثم لم تتابع الأداء وتتأكد من قدرة وكفاءة المؤسسة السياسية على القيام بالواجبات المنوطة بها.

ومن هـنا قال الفقهاء: إن الإمام (الحاكم) إذا أصبح غير قادر على أداء واجباته فإن على الأمة عزله [1] .. وهذا القول يقتضي المتابعة [ ص: 108 ] الدائمة والمراقبة المستمرة لمدى كفاية أداء المؤسسة السياسية لمقتضيات الأمة ومتطلبات التنمية والتنافس الحضاري، الأمر الذي يدل على وجوب إحداث واستحداث آليات وقنوات فاعلة لتقييم الأداء وقياس مستوى الإنتاج البشري للأمة، ومعرفة مدى تقدم وعطاء الآخرين وخططهم وبرامجهم، ثم تحليل هـذه البيانات والوصول إلى مدى كفاءة الحكم، وهل هـو صالح لقيادة البلاد أو أنه لم يعد يستطيع القيام بالواجبات والوظائف المنوطة به، فيجب العزل؟

هذا الأمر، الذي هـو من أهم الواجبات الكفائية ، امتداد لمسئولية الأمة إزاءها، من تعيين الواجب وتعلقه بالشخص المعين كتعلق مسئولية الحكم بالمؤسسة السياسية، إلى متابعة الأمر والتأكد من كفاية القيام بالواجب بصورة مطلوبة، وهذا ما أشار إليه محمد الخضري بك ، رحمه الله، في كتابه «أصول الفقه».

ويتجلى هـذا الأمر بوضوح في أقوال كثير من الفقهاء، الذين اجتهدوا في التدليل على وجوب تنصيب الإمام (الحاكم) ، إذ يشيرون صراحة إلى أن وجوب ذلك هـو لأجل جلب المصالح ودفع المفاسد، الأمر الذي يقتضي قدرة الحاكم على القيام بهذه الوظائف وتحقيق هـذه المقاصد.. ونذكر فيما يأتي أقوال بعض منهم، رحمهم الله: [ ص: 109 ] 1- قال أبوالحسن الماوردي : «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع» [2] .

2- قال ابن حزم الظاهري : «اتفق جميع أهل السنة على أن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم » [3] .

3- قال أبو يعلى الفراء : «نصب الإمام واجب، وقال أحمد، رضي الله عنه : الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس» [4] .

4- قال ابن خلدون : «نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في عصر من بعد ذلك، ولم يترك الناس فوضى في عصر من العصور واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام» . [5] [ ص: 110 ] 5- قال ابن تيمية : «فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات» [6] .. وقال أيضا: «وكل بني آدم لا تتم مصالحهم إلا بالاجتماع والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني الطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد وللناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من آمر وناه، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية، ولا هـم من أهل دين، فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين تارة» [7] . [ ص: 111 ] 6- قال الشوكاني عند الحديث عن وجوب نصب الإمام: «إجماع المسلمين منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هـذه الغاية، فما هـو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا، ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم، وتأمين سبلهم، وإنصاف مظلومهم من ظالمه، وأمرهم بما أمرهم الله، ونهيهم عما نهاهم الله عنه، ونشر السنن، وإماتة البدع، وإقامة حدود الله، فمشروعية نصب الإمام من هـذه الحيثية» . [8] يتضح من هـذه الأقوال أن حكمة الشارع من وجوب نصب الحاكم هـو القيام بجلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم؛ وتحقيق هـذين المطلبين يقتضي توفر عنصري القوة والأمانة: القوة والقدرة الذاتية في الحاكم، وعطاؤه العقلي، الذي يمكنه من التصرف وفق مقتضيات المصلحة العامة ؛ والأمانة التي تجعل الحاكم يتصرف في الشئون العامة كالنائب والوكيل عن الشعب والأمة، يتجرد عن كل هـوس ومصالح شخصية في تصرفاته العامة، ويبتغي جلب المصالح للأمة، ويتفانى في ذلك؛ وبدون هـذا كله لا تتحقق المقاصد التي أراد الشارع تحقيقها من وجوب نصب الإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومن هـنا يمكننا القول: إن مجرد نصب الحاكم لا يعفي الأمة من مسئولية الواجب الكفائي ، بل لا بد وأن تتحقق في الحاكم الصفات اللازمة للقيام بوظائفه، وإلا تكون الأمة آثمة بتركها واجبا كفائيا ضرره على الأمة أكبر من ضرر ترك الواجبات العينية . [ ص: 112 ] وكما أن التأكد من توافر صفتي القدرة والأمانة في الفرد (الحاكم) أمر ضروري، فهو ضروري كذلك في إحداث مؤسسات سياسية صالحة وقادرة على إدارة حركة التنمية في البلاد، وتوجيه واستخدام الإمكانيات المتاحة للصالح العام، والقضاء على كل أنواع الفساد داخل مؤسسة الحكم، بالاستفادة من كيانات مساعدة وضابطة لحركة التنمية البنائية في الأمة، المغذية بتقوية نفسها واستنبات طاقاتها ونموها تلقائيا، وسط الأجواء التنافسية في العطاء والإخلاص والتفاني، لأجل تقدم أكبر وإنتاج جماعي أفضل وأكثر إتقانا، مقارنة بما لدى الآخرين خارج جدران الولاء للأمة.. إن الوصول إلى مثل هـذا الوضع واجب كفائي ، كما يتضح من أقوال الفقهاء الأجلاء، رحمهم الله، بوضوح.

إن ما يقال عن واجب المتابعة في الواجبات الكفائية المتعلقة بالمؤسسة السياسية، يقال كذلك عن مجالات الحياة المختلفة.. لذلك يجب على الأمة أن تعمل على استحداث كيانات تعرف من خلالها وتقيس مدى قيام المؤسسات المختلفة بالواجبات الكفائية والوظائف المجتمعية، ودرجة الأداء فيها، وهل وصل الأداء في تلك الوظائف إلى درجة الكفاية أم لا؟ كما يجب على الأمة دعم القائمين بها إذا احتاجوا إلى زيادة النفقة أو التسهيلات المحددة، أو تدريب الخبراء، أو نقل تجارب الآخرين. [ ص: 113 ] وإذا دققنا النظر في هـذا الأمر، نجد أن تفعيل الواجبات الكفائية يصبح مشروع تنمية شاملة، تحفز الضمير المسلم لمزيد من السعي واحتساب الأجر، واستنفاد الجهود والقدرات الموجودة في سبيل تحقيق أعلى معدل للأداء والإنتاج، وإذا فعلنا ذلك فإننا سوف نكون في مقدمة الأمم، الأمة القائدة الرائدة الراشدة؛ سوف نأخذ موقعنا في حركة التاريخ، كما أراده الله عز وجل للأمة الوسط، الشاهدة على الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية