الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إحياء الفروض الكفائية (سبيل تنمية المجتمع)

الدكتور / عبد الباقي عبد الكبير

أولا: في ساحة الفقه السياسي:

إن قصور الفهم في مجال ضروريات الحياة السياسية، وعدم القيام بالواجبات الكفائية فيها، أدى إلى الاستبداد وإلى أن تكون الإرادة السياسية عاجزة عن تحمل مسئولياتها والقيام بواجباتها تجاه الأمة.

وقد انصب معظم الحديث والتنظير في فقهنا السياسي على حقوق الحاكم على الرعية دون العكس، أو حصر حقوق الرعية في عبارات عامة لا تسمن ولاتغني من جوع، أو أنها لا تتجاوز الورق الذي كتبت عليه، كما أن الفهم لعملية القيام بالواجب الكفائي في اختيار الحاكم أصبح بعيدا عن مقاصد الشرع في القيام بالمصالح العامة (جلب المصالح ودرء المفاسد) الأمر الذي يتطلب من الحاكم قدرا من الكفاءة والأهلية لأداء مسئولياته وواجباته.. والتأكد من هـذا الأمر واجب كذلك على الأمة، حتى تكون قادرة على تحقيق مصالحها. [ ص: 56 ] لقد اقتصر الفهم الديني في هـذا المجال على أن مجرد إقامة رئيس الدولة تعفي الأمة من ذنب التقاعس عن واجب إقامة الحاكم، دون أن يضاف إلى ذلك قدرة الحاكم على العطاء وتمكنه من القيام بالوظائف المنوطة به بوجه أكمل، وخاصة في ضوء التحديات التي تواجه الأمة في عصرنا هـذا، الذي لا يكفي فيه مجرد الاختيار بل لا بد من توفر الحاكم على إمكانات كبيرة تمكنه من القدرة على العطاء، حيث إن أعداءنا يغيرون القيادات وفق معايير القدرة على العطاء كل أربعة أعوام، بينما ننتظر نحن عطاء كثيرا من قيادات سياسية قد شاخت، دون أن نعطي فرصة العطاء للقيادات الشابة والتنافس في العطاء، الأمر الذي يؤدي -كنتيجة طبيعية- إلى تخلف الأمة وضياع مصالحها، مع عدم شعورنا بالذنب، على مستوى العقليات المتدينة، بل حتى على مستوى عقليات بعض علمائنا، ولا أقول الكل، من عدم القيام بالواجب في هـذا المجال، أو حمل القائمين بالأمر - كما أشار إلى ذلك الشيخ محمد الخضري بك [1] - على القيام بوظائفهم، عن طريق إحداث مؤسسات المراقبة والمساءلة والنصح والنقد والشورى وإبداء الرأي. [ ص: 57 ] لقد أبعدت بعض الإدارات السياسية خصيصة « الاحتساب » عن ساحة العمل السياسي والحياة السياسية، ولم تعمل على تأطيرها في هـذا المجال، أو تكوين المؤسسات المطلوبة لذلك، وأصبحت عمليات «الاحتساب» محصورة في مظاهر التدين الخاصة، التي هـي في الغالب واجبات عينية فردية.

وعمليات «الاحتساب» في الحياة السياسية العامة ، إن وجدت، فهي في الغالب فردية، وسرعان ما تعمل السلطة السياسية على التضييق بغية القضاء عليها.. أما أن تحدث وتنشأ مؤسسات «الاحتساب» في الحياة السياسية العامة لتمارس عملية المراقبة والنصح، فالإرادة السياسية، في معظمها، كانت عاجزة عن ذلك إما بسبب الاستبداد وعدم القناعة بحق الشعب في المراقبة والنصح، أو عدم تجرد الحاكم لخدمة الشعب وتقليل الأخطاء وابتغاء الصواب في الرؤية والممارسة.

في العصور المتأخرة، بعد أن فهم السلطان أنه غير مرغوب فيه من قبل الشعوب، وأنه لا يملك سندا شعبيا، وأن الشعوب تريد التخلص منه، لعدم جدوى وجوده في هـذا الموقع، ركن بعض الحكام إلى (الآخر) خارج الحدود، الذي تفوق عسكريا في الآونة الأخيرة، [ ص: 58 ] ليمده بالوسائل الحديثة لقمع معارضيه، الأمر الذي أدى إلى أن تفقد السلطة إرادتها وحريتها في خدمة مصالح الشعوب بل وتسقط في سراب الإملاءات الخارجية التي حولت سياساتنا لخدمة المصالح القومية للدول الأخرى، وهي ليست بالضرورة متفقة مع مصالح الدول، بل تتعارض معها في أكثر الأحيان، وبذلك تضررت التنمية الاقتصادية، وتضررت مشروعات الصناعة، ولم يسمح لقيامها إلا في مجالات محدودة وصغيرة جدا لا تتوافق مع مقتضيات الأمن القومي الاقتصادي، وبذلك افتقدت المؤسسة السياسية أمرين أساسين:

الأول: القدرة والذكاء والنبوغ والإبداع..

والثاني: الإخلاص والتجرد والأمانة والتفاني للمصالح الوطنية.

هذا ما يتعلق بالسلطان الذي أراد أن يبقى بعيدا عن أعين المراقبة ثم المحاسبة، وأن يفعل في مقدرات الأمة ما يشاء، وأن يحرم الأمة من حقها في السؤال عن: ماذا عمل ولماذا عمل ؟

إن أزمة الفهم والوعي بالواجبات الدينية، لابد من معالجتها، فإن الأفهام قد قصرت عن أبعاد الواجبات الكفائية في إحداث مؤسسات الضبط والنصح والمراقبة، الأمر الذي أدى إلى أن تكون العلوم السياسية خارجة عن اهتمام التدين. [ ص: 59 ] إن القيادة السياسية في الإسلام قيادة جماعية وليست فردية؛ لذلك فإن من أخطر الأمراض التي أصبنا بها، في فقهنا السياسي، أننا اعتبرنا القيادة فردية، وهو التصور الذي رفضه الشيخ محمد رشيد رضا، رحمه الله، ونسفه من الأساس، حيث ذهب إلى إن القيادة السياسية في الإسلام هـي قيادة جماعية (أولي الأمر) كما جسدها نظام المدينة.

ولكن السؤال المهم الذي يطرح هـنا: لماذا بقيت الفردية تتحكم فينا كل هـذا التاريخ الطويل للأمة؟ وهنا أعجبني كلام لزيد بن علي الوزير أشار فيه إلى أن السبب الرئيس في بقاء الفردية هـائجة منتشية هـو تديين منصب الحاكم، وتديين الصلاحيات، وتديين الطاعة، وأن هـذا التديين قد وضع الفقه السياسي في قالب حديدي لا يسمح بالخروج منه، وهكذا تم التعامل مع الحكم والحكام وكأنهم يمارسون طقوسا دينية، لذلك فإن تديين ما ليس بدين كان هـو سبب بقاء الشقاء السياسي كل هـذا العمر المديد. [2] [ ص: 60 ] ونخلص من ذلك كله إلى أن قلة الاهتمام بالعلوم السياسية، وإخراجها عن دائرة اهتمامات التدين، أدى إلى فساد النظام السياسي وقيام السلطات الاستبدادية، التي صادرت حريات النصح والمراقبة والشورى ، وفوتت الفرصة على الأمة لاختيار القوي الأمين، فافتقدت الأمة بذلك العقل الذي يفكر، ويعي حاضره، ويخطط لمستقبله، ورضي أن يطمئن نفسه بمظاهر التدين الشخصية، وذلك بالاكتفاء بالقيام بالواجبات العينية ، كالصلاة والزكاة والحج... إلخ.

التالي السابق


الخدمات العلمية