منهج السياق في فهم الحديث النبوي
واستنباط فقهه
أولا: السياق وأثره في فهم الحديث النبوي
- تقديم
لا شك أن أئمة الفقه كانوا يستنبطون من ألفاظ الحديث وحروفه أحكاما فقهية [1] ، ويستقصون منه الفوائد والحكم والآداب ويتتبعونها، فيبنون عليها قواعد مذاهبهم، وهو ضرب من اقتباس الأحكام من أصولها، بطريق دلالة الألفاظ على معانيها ومراميها، وهذا يتطلب من المستنبط فقه النص وفهمه، ومعرفة بمقاصد الشريعة، وعلما بأساليب البيان العربي. والنبي صلى الله عليه وسلم أول مستنبط للأحكام من نصوص القرآن الكريم؛
بدليل قوله تعالى: ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) (النساء:105) . [ ص: 97 ] ولقد نزلت الشريعة -قرآنها وحديثها- بلسان عربي مبين، فخوطب بها العرب على ما تعرف من لسانها، فجاء فيها ما لفظه عام يراد به العام الظاهر، أو عام ظاهر يدخله الخاص، أو ظاهر لا يراد به ظاهر لفظه، وقد يبتدأ الكلام فيبين أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وقد يعرف الشيء بالمعنى والكناية بالاسم دون اللفظ، ويسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، ويدل على المعاني الكثيرة باللفظ الواحد [2] .
وإنما تستخرج هـذه الوجوه البيانية من نصوص الشريعة بعلوم اللغة العربية؛ وهي النحو والتصريف وعلم اللغة وعلم المعاني والبـلاغة، وكل ما يستقيم به فهم النص [3] ؛ لأن الشريعة عربية اللسان، لا يفهمها حق [ ص: 98 ] الفهم إلا من فهم لسان العرب، وحظ كل امرئ من فهم الشريعة بحسب حظـه من العـلم بالعربية، فإذا بـلغ الغـاية في العربية كان كـذلك في الشريعة [4] . 1- السياق اللغوي، معيارا لتمييز صحيح الحديث من موضوعه
إذا بحثنا في البنية اللغوية لجملة الحديث النبوي، وحللنا خصائصها [5] فسيتحصل لدينا جملة من الخصائص السياقية اللغوية التي تميز الحديث الصحيح من غيره، يرجى أن تكون معيارا جديدا ومقياسا لغويا يسهم في تعيين الحديث الصحيح، وفي الكشف عن الحديث الموضوع.
وعندما تؤخذ هـذه الخصائص مجموعة، تسند كل خصيصة منها صاحبتها، فتكون دليلا لغويا جديدا مميزا للحديث الصحيح، إلى جانب الدراسات الأخرى التي تبحث في المتن والسند [6] . وهذه الخصائص ميزات لغوية سياقية تؤكد أن الحديث النبوي الشريف الذي ثبتت صحته [ ص: 99 ] هو نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلامه الكريم، وسنته التي أراد تبليغها للناس كافة، فجاءت بزيها اللغوي الأصيل وسمتها النبوي الموقر، متحدية انتحال المنتحلين ووضع الوضاعين.
وهذا التفات وجيه يوضح أثر السياق اللغوي -وما يحمله من قيم ودلالات- في تقديم الحديث الصحيح إلى القارئ، ويؤيده ما ألفه علماء الحديث في الموضوعات؛ فهذا محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت.1250) [7] يورد في كتابه: «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» أحاديث تثبت ذلك؛ منها حديث : ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه. ) [8] . [ ص: 100 ] لقد ألفت عشرات الكتب في الأحاديث الموضوعة والمكذوبة، وبين أصحابها زيفها، حتى لا يلتبس أمرها على من لا علم له بعلوم الحديث
[9] . وكان التحري في رواية الحديث النبوي هـاجسا غالبا وهما ناصبا؛ " فهذا عمرو بن ميمون ، يصف شدة حرص عبد الله بن مسعود في ذلك، قائلا: «ما أخطـأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان ذات عشية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فنكس. قال: فنظرت إليه فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك. هـذا إسناد صحيح، احتج الشيخان بجميع رواته...» " [10] . [ ص: 101 ]
وما فتئ علماء الحديث -قديما وحديثا- يؤلفون في الموضوع من الحديث والواهي والضعيف، وفي المجروحين والمتروكين والوضاعين، حتى انكشف الدخيل وتجلى، وتبدد الشك وتولى.
وإذا استقرينا الأحاديث الكثيرة التي استخلصت بعد التصفية والانتقاء والتوقي [11] ، ألفيناها تطلـع علينا ببهائها اللغوي وسمتـها البليغ، يتجلى من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصيح اللسان، غير متكلف للقول ولا مجاوز به مبلغه ومقصده.
لقد كانت حركة التصنيف في الموضوع والوضاعين دواء علميا نافعا، وشرطا في معرفة الصحيح من السقيم ناجعا، فجاءت نصوص الحديث ببنائها اللغوي ودرجة بيانها وفصاحة ألفاظها وبلاغة معانيها شاهدا ومبشرا، ومصباحا منيرا. وبرهنت لنا هـذه الهيئة اللغوية البهية على مقياس جديد من مقاييس تمييز الصحيح من الدخيل؛ هـو المقياس اللغوي وما ينطوي عليه من قيم بلاغية وبيانية عالية. [ ص: 102 ] ولعل التضلع من معرفة السنن الصحيحة والآثار والسيرة يمنح صاحبه علما بما في الموضوعات والمنكرات من الظلمة والركاكة، والبرودة وقلة الماء، وما في الأحاديث المسندة بالأسانيد الصحيحة من الصدق في الحديث، وسهولة إدراكه والانفعال به، ولين الإبشار له، وعدم إنكار القلوب له، ويستقر له بالفراسة الطيبة والحس اللغوي السليم صحيح الحديث من السقيم. وإن صفحات معدودة وأحيازا محدودة مثل هـذا البحث المتواضع لتعجز عن أن تحيط بالبناء اللغوي للحديث النبوي بحثا واستقصـاء، بما في هـذا البناء من دلالات عميقة، لا يستقيم إدراكها إلا بالتمرس بلغة الحديث، والوقوف على جزالة ألفاظه، ووضـوح دلالاته، جزالة لا يبرحها الوضوح والبيان، ووضوحا لا تحجبه مفردات غريبة ولا أساليب ملتوية [12] .
إن الحديث السابق : ( إذا سمعتم الحديث عني تقشعر منه جلودكم، وتشمئز منه قلوبكم فردوه... ) ، يعرض قبـول الحـديث أو رده على الحس والنفس، فهو مقياس نفسي لغوي، ولكنه ليس [ ص: 103 ] كذلك بالمعنى المجرد الذي يفهم منه استباحة كل إنسان أن يعرض الحديث على حسه، فإن وافق الحديث حسه صح عنده، وإن خـالفه لم يصح؛ لأن الأمر سيصبح تحكيما للهوى في التمييز، وهذا خطأ واضح في القياس؛ لأن المقصود بسامع الحديث الذي يقشعر جلده أو يلين، ويشمئز قلبه أو ينشرح، والذي درج على سماع الحديث، واستقر في نفسه منه أصوله، فأصبح التمييز عنده ملكة راسخة، لا يخفى عليه ركيك النص من فصيحه ولا سقيمه من صحيحه. وهذا مقياس نفسي لغوي معضود بالعلم بالحديث [13] ، وينبغي أن يوافق المقياس النفسي [ ص: 104 ] المذكور الشروط الأخرى ولا يخالفها؛ فلا يخالف الحديث الأصول (أصول الشريعة) ، ولا يعارض المنقول، ولا يباين المعقول... فتلك شروط تقيد كل خطوة للحكم على الحديث، ولا تتركها لتلعب الأهواء وزيغ النفوس. والمتمرس بمثل هـذه الشروط هـو الذي تستقر في نفسه ملكة العلم بالحديث [14] . 2- علاقة النص الحديثي بالمتلقي المستنبط
يعد الفقيه الذي استوفى أدوات فهم نصوص الحديث النبوي مجتمعة قارئا متميزا أو متلقيا متميزا
[15] ، يحسن قراءة الحديث، ويغترق دقائقه، ويستخرج أوجهه وفوائده، ويحسن تلقيه واستيعابه وتفسيره، وينزع عنه الغرابة والإلف الذي يهيمن على أفهام الناس عند تلقيهم له بما أوتي من أدوات وطرق تقرب له البعيد وتجلو الغامض، وذلك لأن [ ص: 105 ] علم معظم المتلقين لا يكاد يحيط بأسماء اللغة العربية وألفاظها التي هـي حوامل للمعاني، ولا بالمعاني المحمولة، ولا بوجوه النظم والتركيب التي بها يكون ائتلاف الكلام. ولولا تلك الأدوات الموضحات التي تجمع بين الفقيه المستنبط وقائل النص لظل خارج إطاره، ولما استطاع أن يجلي معانيه في وعيه، ولكان تلقيه أمرا متعذرا.
إن الفقيه والبلاغي وغيرهما من علماء النص والدراية نمط للقارئ الذي يتخذ من الحديث النبوي نصا رفيعا متفردا، ولا يكتفي بقراءة واحدة، ولكنه يجري عليه قراءات متعددة، مصغية نشيطة متأنية، ثم يستقصي جزئياته وكلياته أو ما يعرف في المناهج النقدية الحديثة ببنى النص الصغرى والكبرى [16] ، وما لتلك البنى الصغرى والكبرى من علاقة بنسق النص وهيكله العام؛ وذلك لنقل المعاني من داخل النص إلى المتلقين الآخرين.
وأما النص فله وجود موضوعي، وله قوة إبلاغية تجعل الناس درجات في استيعاب ظواهره وخفاياه، ولذلك فالمتلقون متعددون، ومتفاوتون في مستويات التلقي، واستنباط أسرار النص، بدءا من المستوى المبتذل الذي لا يستوعب فيه المتلقي غير تسلسل المعاني في عبارات النص، [ ص: 106 ] ووصولا إلى المستوى المتميز، الذي ينفذ فيه المتلقي إلى مقاصد القائل وخصائص النص المقول، وتكون له قدرة عالية على تجاوز الأنماط السائدة في التلقي والقراءة، فتكون قراءته -لهذه الأسباب- نموذجية، تحمل الناس على رفع مستوى علمهم ومعرفتهم ومهاراتهم في فهم النصوص العالية، وتنقلهم إلى عالمه.
فالقارئ «النموذج» -بالمعنى العلمي المعرفي- ليس قارئا «سلبيا» للنص، ولكنه هـو الذي يستطيع أن يعيش الحياة المجسدة في النص، وأن يكتشف جديدها، وأن يكون مؤهلا ليتوسط بين قائل النص وبين القارئ «العادي»، فيمكنه من إدراك عناصر النص الثابتة وعناصره القابلة للتأويل التي تغتني بالتجـربة التاريـخية.
إن هـذا القارئ «النموذج» -الذي هـو اللغوي البلاغي المستخرج للمعاني المحتملة، والفقيه المستنبط للقواعد الفقهية والأحكام الشرعية- يسعى إلى الكشف عن المعاني والبناء في النص، بل يسهم في ذلك النص بقدر غوصه على درره واستخراجه لأدق مقاصد واضعه، فهو بذلك «قارئ مشارك»؛ لأنه يخرج صفات من صفات هـذا النص إلى حيز التطبيق والحركة والتحقق، وهي صفات «الجمع» و «الاحتمال» و «التعدد» فيه.
وكل قراءة لذلك النص الرفيع المتفرد ينبغي أن تعتمد على ضرورة وعي القراء الخالفين من بعد «القارئ النموذج المشارك» بالأفق التاريخي لهذا [ ص: 107 ] القارئ النموذج [17] ، وانتقالهم إليه، حتى يفهموا ويدركوا كيف قرأ النص وفهمه وأدركه، ولم قرأه بالطريقة التي قرأه بها؟ وما اتخاذ «القارئ النموذج» مرجعا في فهم النص الحديثي إلا لأن الآفاق تتحرك وتتغير، فلم يكن بد والحالة هـذه من وجود أساس ثابت يتخذ وسيلة لبلوغ جوهر النص.
هذا، وقد وجد هـذا الضرب من «القارئ النموذج المشارك» في تاريخ التأليف في بلاغة الحديث وفقه الحديث؛ فالبلاغيون استخرجوا أوجه الجمع والإيجاز المحتملة، من صنف من الأحاديث هـو «جوامع الكلم»، وقد ألف العلماء كتبا في بلاغة الجمع والإيجاز في الحديث النبوي، ككتاب «المجتنى» لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد (ت.321) ، وكتاب «المجازات النبوية» للشريف الرضي (ت.406) ، وكتاب «الإعجاز والإيجاز» لأبي منصور الثعالبي (ت.429) ، وكتاب «الإشـارة إلى الإيجـاز في بعض أنواع المجـاز» لأبي محمد عز الدين ابن عبد السلام (ت.660) ، وغـيرها مما تناول الأحاديث الموجزة بالدرس البلاغي.
أما فقهاء الحديث فهم أهل الدراية بفوائد الحديث وثمره، الذين تعرضوا له بالشرح الموضوعي، الذي يقوم على استنباط الأحكام [ ص: 108 ] واستخراج القواعد الفقهية العديدة من الحديث الواحد، وجاء التأليف في هـذا الباب:
- إما على شكل شرح مفصل لطائفة من الأحاديث بغية استخراج فوائدها ومعانيها وأحكامها الفقهية، مثلما فعل أبو سليمان الخطابي (ت.388) في كتابه «أعلام الحديث»؛ حيث شرح فيه بعض أحاديث صحيح البخاري، وجمع فيه فوائد فقهية ولغوية، وكتابه «شأن الدعاء»، الذي شرح فيه مجموعا من الأدعية انتقاه وعرض أسراره، وكتابه «معالم السنن» الذي وضعه على سنن أبي داود، ركز فيه على الجانب الفقهي، ولم يخله من بعض الفوائد اللغوية؛ ومثلما فعل أبو عمر بن عبد البر (ت.463) في كتابه «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» الذي اعتمد فيه على المعاني الفقهية المستنبطة من نصوص الموطأ. والقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت.544) في كتابه «إكمال المعلم» الذي شرح صحيح مسلم شرحا فقهيا لغويا. وأبو بكر بن العربي المعافري (ت.543) في كتابه «القبس بشرح موطأ مالك بن أنس» الذي ركز على جانب الاستنباطات الفقهية، والمازري (ت.536) في كتابه «المعلم» الذي شرح فيه أحاديث مختارة من صحيح مسلم بطريقة مختصرة تبين عن تضلعه من اللغة وتمكنه من الفقه. وأبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (ت.656) في كتابه «المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم»، [ ص: 109 ] لخص فيه صحيح مسلم ليقربه للناس، وشرحه شرحا معتمدا على القرآن والحديث واللغة وأقوال المتأدبين. وأبو عبد الله الأبي (ت.827) صاحب «إكمال إكمال المعـلم» أكمل فيه كتاب الإكمال للقاضي عياض. وابن حجر العسقلاني (ت.852) في كتابه «فتح الباري» الذي ضمنه خلاصات الشروح المتقدمة ولفت إلى بعض أسرار الأحاديث. وبدر الدين محمود بن أحمد العيني (ت.855) صاحب كتاب «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»، الذي بين معاني ألفاظ الحديث وفوائد أخرى مستنبطة. وأحمد بن محمد القسطلاني (ت.923) صاحب كتاب «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري».
ومن أبرز من ألف في فقه الحديث الإمام المحدث أبو محمد عبد الله ابن أبي جمرة الأندلسي المتوفى سنة (699) ، صاحـب كتاب «بهجة النفـوس، وتحليـها بمعرفة ما لها وما عليها»، وهو شرح لمختصر صحيح البخاري المسمى: «جمع النهاية في بدء الخير والغاية».
- وإما على شكل إفراد حديث واحد بالتصنيف؛ أي بناء المصنف الواحد على الحديث الواحد، وذلك للتوسع في استخراج كل ما يحتمله من فوائد وأحكام، ويدخل في هـذا الباب كتاب «بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد» للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت.544) ، وجملة من مؤلفـات الحافـظ أبي الفرج عبد الرحـمن ابن أحمد بن رجب الحنبلي (ت.795) [ ص: 110 ] الذي كان من أبرز من أفرد الحديث الواحد بالتصنيف، فمن مؤلفاته «اختيار الأولى في شرح اختصام الملإ الأعلى»، و «الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بالسيف بين يدي الساعة»، وشرح حديث «إن أغبط أوليائي عندي»، وشرح حديث شداد بن أوس : «إذا كنز الناس الذهب والفضة»، وشرح حـديث عمـار بن ياسر : «اللهم بعلمك الغيب»، وشـرح حديث: «ما ذئبان جائعان» ويسمى أيضا: «ذم الجاه والمال»، وشرح حديث «لبيك اللهم لبيك»، وشرح حديث أبي الدرداء «من سلك طريقا يلتمس فيه علما»، وشرح حديث «يتبع الميت ثلاث»، وكتاب «غاية النفع في شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع»، وكتاب «كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة»، وهو شرح حديث ( بدأ الإسلام غريبا ) ، وكتاب «المحجة في سير الدلجة» وهو شرح حديث ( لن ينجي أحدا منكم عمله ) ، وكتاب «نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس»، وهو شرح حديث: ( احفظ الله يحفظك ) .
إن رواية الحديث ونقد الرجال، شرط في حمل العلم ونقله وتبليغه، لكن كمال العلم وفائدته في العلم بمعاني الحديث وثمره، وليس بالوقوف عند عتبة الرواية والاقتصار عليها؛ فقد روى ابن وهب ، عن الإمام مالك [ ص: 111 ] قال: «إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.» [18] ، ومعناه أن العلم لا يدرك بكثرة الرواية، وإنما العلم الشرعي العلم بالكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، وفهم أوتيه الرجل، ومعرفة بمعاني النصوص وسياقها الذي وردت فيه.
وسئل يحيى بن معين : أيفتي الرجل من مائة ألف حديث؟ قال: لا. ومن مائتي ألف؟ قال: لا. وثلاثمائة؟ قال : لا. وخمسمائة ألف؟ قال: أرجو. وليس يكفيه إذا نصب نفسه للفتيا أن يجمع ما في الكتب دون معرفته به ونظره فيه وإتقانه له؛ فإن العلم هـو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية. [19] . 3- بلاغة الإيجاز و «فقه الحديث» من خلال السياق
وسأقتصر على نماذج من الأحاديث، اعتنى شراحها فيها باستخراج ما تضمنته من أوجه فقهية، بمنهج سـياقي لغـوي بياني يعتمـد على بيان دلالة الألفاظ واستخراج أوجه الإيجاز وجوامع الكلم، من خلال سياق الورود. [ ص: 112 ] أ- فمما ورد من استنبـاطات الأئمة معتمدا فيه على ظاهر لفظه، ما روي عن الإمام مالك رحمه الله، في الأحكام التي استخرجها من ( قول النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر ، رضي الله عنه: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم ؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. ) [20] معتمدا في ذلك على السياق اللغوي ودلالة ألفاظ الحديث وما تسعفه من قواعد فقهية. وقد استنبط الإمام مالك من هـذا الحديث ثلاثة أحكام:
- الأول: أن الشفعة لا تكون إلا بين الشركاء، لا للجار وإن كان ملاصقا؛ لأنه لا يسمى شريكا.
- الثاني: أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم، وما لا ينقسم لا شفعة فيه، بدليل قوله: ( فإذا وقعت الحدود ... )
- الثالث: أن الشفعة لا تكون إلا في الأرض أو ما شاكلها؛ بدليل قوله: ( وصرفت الطرق ... ) ؛ لأن الطرق لا تكون إلا في الأرض. [21] .
ب- ومما جاء لفظـه عـلى الإيجاز والاختصار، وأخفـى وراءه ما لا يكاد ينحصر من الفوائد الفقهية والمعاني الجليلة، واحتاج شرحه إلى [ ص: 113 ]
معرفة بسياق النص ودلالاته اللغوية، حديث بدء الوحي [22] ، الذي يحتوي [ ص: 114 ] على أكثر من سبعين وجها من وجوه المعاني والقواعد الفقهية المستنبطة [23] والفوائد الكثيرة من أحكام وآداب ومعرفة بجملة من قواعد الإيمان والسلوك، ولأجل ما فيه من المعاني حدث به النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة لتبدي ذلك للناس فيأتسوا، فحدثت به عائشة.
ومن هـذه الفوائد الفقهية التي يجليها السياق وتبين القيمة الإيجازية لحديث «بدء الوحي» عبارات مثل:
- ( لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ) : والمقصود وضوح الرؤيا وصدقها، وأنها تخرج من غير تراخ ولا مهلة، ووقعت العبارة عن هـذه الرؤيا بفلق الصبح لا بغيره؛ لأن شمس النبوة كانت خيوطها الأولى ومبادئ أنوارها صحة المرائي وصدقها، ثم ما زال نور النبوة يتسع حتى بدت شمسها.
- ( حبب إليه الخلاء ) : أي جبل على الخلوة بالفطرة، وعلى الخير ابتداء. والخلوة كناية عن انفراد الإنسان بنفسه. فحبب إليه أصل العبادة.
- ( فكان (يأتي أو يلحق أو يخلو) بغار حراء فيتحنث فيه ) : واختص بغراء حراء دون غيره لما له من فضائل، وهي أن من فيه يكون منزويا مجموعا للتحنث والتعبد، وأنه ينظر إلى الكعبة بيت الله، وهذا من إيجاز فضائل الغار وهي الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. [ ص: 115 ] - ( قبل أن ينـزع (أو يرجع) إلى أهله ) : فيه دليل على أن المستحب في التعبد الاستمرار وعدم الانقطاع.
- ( ثم يرجع إلى خديجة (أو أهله) ويتزود لذلك ) : فيه دليل على أن التبتل الكلي والانقطاع الدائم ليس من السنة، فكان يخرج إلى العبادة باستمرار، ثم يرجع إلى أهله لضروراتهم. وفيه دليل على التسبب في الزاد عند دخول المعتكف أو الخلوة ، وفي ذلك إظهار لوصف العبودية وافتقارها وضعفها، أما الخروج بغير زاد ففيه مهلكة وعجز عن توفية المراد، فكان اتخاذ الأسباب سدا لذرائع النفس عن التشوف والتعلق والالتفات، وفي ذلك " يروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه رؤي يحمل جرابا، فقيل له: ما هـذا يا أبا عبد الله؟ قال: إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت. " [24] .
جـ- ومما ورد من الاستنباطات أيضا، شرح حديث «حلاوة الإيمان» الذي ( رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار. ) [25] [ ص: 116 ] والمقصود: «ثلاث خصال» فحذف حذف إيجاز، والتقدير: ثلاث خصال [26] ، ويحتوي الحديث على ثلاثة وجوه:
الأول:أن ظاهر لفظ الحلاوة عند الفقهاء يدل على المعنى وهو استكمال الإيمان [27] ، لا على المحسوس، خلافا لغيرهم.
والثاني: أن مضمون الأشياء الثلاثة التي بسببها تحصل حلاوة الإيمان يرجع في الأصل إلى اللفظ الأول؛ وهو ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) ؛ لأن من ضرورة المحبة لله ورسوله أن تدخل الخصلتان الأخريان في ضمن الخصلة الأولى، فالقصد من ذكرهما اختبار صدق المحبة لله [28] بحب المرء ما الغاية منه، وبالإكراه على الكفر كيف يجد نفسه إن ابتلي بذلك، فليس ذكر هـاتين الخصلتين من باب الإطناب والزيادة في التفصيل، ولكن أوردهما علامتين يفرق بهما بين الدعوى والحقيقة.
د- وحديث قتال المسلمين، الذي ( رواه الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هـذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هـذا الرجل. قال: ارجع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا التقى [ ص: 117 ] المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. فقلت: يا رسول الله، هـذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه. ) [29] : فظاهر الحديث يدل على لحوق الوعيد بالقاتل والمقتول [30] دلالة عامة، ولكنه محمول على الخصوص؛ وهو أن يتحد القاتل والمقتول في فساد النية وفي الحرص على قتل صاحبه وإبقاء عمره هـو؛ لأنه قد يحصل الفعل بغير قصد، فيكون قتل خطإ، أو يكون كل منهما تأول فظهر له أن قتاله على الحق، والإجماع قائم على سقوط الإثم عن قتل الخطإ، وقتل اختلاف التأويل وحصول الشبهة، فيكون عموم الحديث قد تخصص بدليل من الإجماع.
وفي بيانه وظـاهر لفظـه -أيضـا- دليل لأهل السنة في كونهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب؛ لأنه ( صلى الله عليه وسلم قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما. ) فسماهما مسلمين مع ارتكاب هـذا الذنب العظيم، ولم يخرجهما عن دائرة الإسلام.
أما لفظ «السيف» فيدل على معنى معجمي خاص لا يراد لذاته، وإنما يراد عموم المعنى الذي يدل على الغاية منه، وإنما عبر بالخاص وهو [ ص: 118 ] السيوف دون غيرها؛ لأنها كانت في الغالب عدة العرب في الحروب، فدل بالغالب عن الكل، فكل من تلاقى بأي نوع من أنواع السلاح المعدة عادة للقتل بنية الحرص على القتل تناوله الحديث بالوعيد.
وللحديث أحاديث أخرى كثيرة تقويه وتعضده، تنص على حرمة دم المسلم، والنهي عن قتاله، فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم قتال المسلم بابا من الكفر، وعملا من أعمال أهل الجاهلية الذين كانوا يشنون الحرب ويريقون الدماء لأسباب واهية، ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. ) [31] ، وقال: ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. ) [32] .
ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل عـمل يؤدي إلى القـتل أو القتال، ولو كان إشـارة بالسلاح: ( لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينـزع في يده فيقع في حفرة من النار. ) [33] وقال: ( من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه. ) [34] . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يروع مسلما. ) [35] . [ ص: 119 ] هـ- وحـديث: ( إن الدين يسـر. ) [36] ، الذي ( رواه أبو هــريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة. ) [37] :
- ظاهر لفظ الحديث على أن الدين يسر وليس بعسر، وعلى طلب الرفق فيه. أما عبارة «إن الدين يسر» وحدها فإنها تحتمل وجوها كثيرة: منها أن المراد بالدين الإيمان والإسلام كلاهما، وأنه يسر بالنسبة إلى من سبق، ولم يكلف الناس في ظل هـذا الدين إلا بما يطيقون، ورفع عن هـذه الأمة الإصر الذي كان قد جعل على الأمم الماضية، وأنه يسير على من عرفه، عسـير على من جهله، وأن مـا كلف به الناس بالنص مما لا يمكن فيه التأويل يسر، وأما الأكثر مما كلفوا به فهو محتمل للتأويل وقابل له، واحتمال الأكثر للتأويل فيه تيسير وتوسعة من الشارع الحكيم على العباد، وأنه يسر لأنه يراد به الأخذ بأقرب الوجوه التي اختلف فيها، وأنه يسر يراد به قصر الأمل؛ لأن قصر الأمل من الأسباب المعينة على الدين، فيصير الدين بسببه يسرا؛ فإذا قصر الأمل قل الحرص وسهل الزهد وخف العمل؛ لأن الحرص في التسبب في أعمال الدنيا عاهة [ ص: 120 ] في الإيمان، وضعف في التصديق، وتعب في تحصيل حاصل [38] . ثم إن الدين يسر يراد به جميع الوجوه التي تقدم ذكرها وما يمكن أن يتشعب منها، ولكل وجه أدلته من الكتاب والسنة.
- وأما البشارة في الحديث، فتحتمل من ظاهر لفظها معنيين:
أحدهما معلوم محدود بما ورد من أخبار مبشرة؛ مثلما ورد في قوله تعالى: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) (الزلزلة:7) .
والثاني معلوم لا حد له فهو ما وعد به الله تعالى حيث يقول: ( ويزيدهم من فضله ) (فاطر:30) ؛ فالزيادة معلومة وحدها مجهول.
وفي الحديث دليل على أن البشارة إنما تكون للعاملين، بدليل ظاهر لفظ الحديث حيث لم يقل صلى الله عليه وسلم : «أبشروا» إلا بعد النص على العمل الذي يوجب البشارة، وهو التسديد والتقريب لمن عمل بها، فبعد العمل تأتي البشارة؛ لأنها رجاء يشرح الصدر وينشط للعمل.
وتحتمل «البشارة» أيضا التخليص من المآثم والمعاصي وتحصيل رضاء الله؛ عن طريق إصلاح الحال وسلوك السبل السوية والأخذ [ ص: 121 ] بالرخص التي تصدق الله بها على العباد، وهو ما يفهم من ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : ( فسددوا وقاربوا. ) ؛ أي قاربوا أولا بالجد والأخذ بالحزم في ترك المحذور والعمل على براءة الذمة، فإن وقع المرء في عجز أو غفلة أو معصية فليسدد وليأخذ بالحزم، ثم بالرخص المتصدق بها، ولكن لا يعمل على أحد الطرفين: إما بطرف التشديد؛ فيأخذ بالمشادة ويترك السداد. وإما بطرف الرخص؛ فيتخذها ذريعة للوقوع في المحارم، فإن المرء لا يعرى من الزلل، ولا يسلم من الشطط أو التفريط، ولكنه يرجع منه بالتوبة والإنابة والسداد والتقريب، فيكون الذنب سببا للتوبة، وهذا مبشر بالمغفرة.
- أما «المشادة» فلفظها من أبنيـة المفاعلة، فمن شدد في دينه ولم يبلغ به حد المبالغة لم يدخل في دائرة النهي، وكان ذلك منه رفعة في الهمم؛ ( لقوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. ) [39] ، فأفاد أن القوي خير من الضعيف، وأن للضعيف من الخير بقدر إخلاصه، ولم يخرجه الحديث من باب الأفضلية [ ص: 122 ] وإن كان ضعيفا. وهذا يدل على أن المطلوب هـو الكمـال الذي فيه القوة والترفق، فمن لم يقدر عليه رجع إلى من هـو دونه بقدر طاقته، ويحذر أن يأخذ في طرف الكمال حتى يبلغ به الحال إلى حد المبالغة، فيغلبه الدين بالضرورة.
وتحتمل عبارة «المشادة» في الحديث النهي عن التوغل في المندوبات إلى حد يئول الأمر بالمتوغل إلى الإخلال بالفرائض فيغلبه الدين؛ كأن يكثر من المندوب في طرف، ويترك واجبا في طرف آخر، ومثاله من يتوسوس في الطهارة حتى يفضي به الأمر إلى إيقـاع الخلل فيـها، فلا يسوغ أن يتقرب بالفرع مع عدم توفية الأصل.
وتحتمل العـبارة أيضا أن من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد وترك ما رخص له فيه غلبه الدين لأجل ما أدخل على نفسه.
وتحتمل أيضا أن من يريد الأخذ بالكمال في كل أمر من أمور الدين فيعمل في كل مسائله بالإجماع، غلبه الدين لأجل ما ألزم نفسه به؛ لأنه يجد أن كثيرا من المسائل لا ينعقد عليها إجماع.
وتحتمل أيضا أن من أراد أن يأخذ علوم الدين بغير طريق الكتاب والسنة إما بعقل أو ما شابهه واقتصر عليه غلبه الدين بالضرورة؛ لأنه سيلتبس عليه الحق، ويتطرق الاحتمال والظن إلى ما هـو قطعي.
وتحتمل أيضا أن من أطال الأمل وقع له الكسل إذ ذاك، فغلبه الدين لأجل طول أجله، ولأجل أنه أدخل هـم غده على يومه، فغلب من هـذه الجهة. [ ص: 123 ] وتحتمل أيضا أنه لا يشدد أحد على نفسه إلا ويشدد الله عليه لأجل تنطعه أو تسامحه في دينه، كما حصل لبني إسرائيل في قصتهم مع البقرة التي أمروا بذبحها، فلو امتثلوا لأجزأتهم بقرة من البقر، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، ولأجل هـذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره كثرة السؤال، ويذم فاعله خيفة التشديد.
وتحتمل أيضـا أن من لم يرض بالمقـدور وتسخـط شاد دينه فيغلبه الدين.
وتحتمل أن تكون بمعنى ضعف اليقين، الذي يقوي فيه هـواجس النفس والشيطان وتسويله.
وتحتمل أن تكون بمعنى حظوظ النفس وتبليغها آمالها وترك استسلامها؛ فيعتمد صاحبها على نفسه ولا يستعين بربه، فيظهر عجزه وعيوب نفسه عندما يشاد الدين فيغلب.
- أما «التسديد والمقاربة»، فيحتمل أن يكونا لمعنى واحد، وهو الأخذ بالحال الوسط، أو معنيين اثنين؛ وهما الأخذ بالحال الوسط في كل شيء، والأخذ بالتقريب عند العجز عن التسديد. والحال الوسط هـو ما نص عليه ( حديث أبي الدرداء حين قال له سلمان الفارسي ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله: يا أبا الدرداء، إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، أعط كل ذي حق حقه؛ صم وأفطر، وقم ونم، وائت أهلك. ) [40] ؛ [ ص: 124 ] فعمم له بقوله: ( أعط كل ذي حق حقه ) . فالسداد أن يأخذ المرء الأمور كلها فرضها وندبها من غير تفان ولا تقصير. والمقاربة هـي الاقتراب من السداد عند حصول العجز بسبب عذر، فما قرب من الشيء أعطي حكمه، بشرط ألا يقع في نقص أو خلل وقد ذكرت طائفة التسديد في قوله تعالى: ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) (الواقعة:10-11) ،
وذكرت طائفة التقريب في قوله تعالى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) (النساء:31) .
- أما ( الاستعانة بالغدوة والروحة ) ، فظاهر اللفظ فيها يدل على تعيين الأوقات التي جعلت للعبادة وعمارتها بالطاعات، وفيه أمران: الاستعانة بزمن مخصوص هـو: طرفا النهار الغدوة والروحة؛ لنشاط النفس [ ص: 125 ] فيهما وخلو الشغل، وآخر الليل أو الدلجة؛ لأنه أقوى للبدن بعد الراحة، والاستعانة بالأعمال التي هـي تعمير هـذه الأوقات بالطاعات.
ويحتمل أن يكون معنى ( الاستعانة بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) الاستعانة بالغدوة وهي صلاة الضحى، والروحة وهي الصلاة بين الظهر والعصر، بدليل أحاديث كثيرة تبين فضائل النوافل في هـذه الأوقات.
ويحتمل أن يعني أن من واظب على الأعمال في الأوقات المذكورة رزق بها العون على ما شرع فيه من أعمال الطاعات، ويسر له ما عسر من أمر دينه، وزيد في قوة إيمانه.
ويحتمل أن من عمر هـذه الأوقات المنصوص عليها بالتعبد، فإنه يعان على ما هـو بسبيله من التعلم، بدليل قوله تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) (العنكبوت:69) .
ويحتمل أن تكون الاستعانة هـنا بمعنى ملازمة التوجه إلى الله عز وجل ، والمحافظة على ذلك عند نزول المحن والفـتن؛ لأنه سبيل النجاة، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسـي ( عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الرب عز وجل : من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. ) [41] . [ ص: 126 ] و- ( وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة. ) [42] :
يدل الحديث في ظاهره ولفظه وصريح بيانه، على أن الإنفاق مع الاحتساب صدقة.
- وفيه أن المراد بالنفقة واجب الرجل على أهله وعياله من الإنفاق، فدل بلفظ: الإنفاق، ولم يقل: أطعم؛ لأن «أنفق» يعم كل ضرورات العيال المعلومة عادة وشرعا. [43] .
- لفظ «الاحتساب» هـل يشترط فيه إحضار الإيمان أو لا؟ إن كان المراد الإيمان والاحتساب معا فيكون ترك ذكر الإيمان هـنا للعلم به وشهرته؛ ولأنه ذكر في حديث آخر، رواه أبو هـريرة : ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ) [44] ، فيكون الاحتساب يتضمن الإيمان. وإن كان المراد به الاحتساب، شرط إحضار الإيمان فيكون لفظ الحديث على ظاهره، وهو الأرجح، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر هـنا [ ص: 127 ] الاحتساب وحده جعل ثوابه ثواب الصدقة، ولما ذكر الإيمان وحده في حديث آخر جعل ثوابه حسنات [45] ، ولما ذكر الإيمان والاحتساب معا جعل ثوابه مغفرة للذنب [46] ، وهو أعلى درجات الثواب. [47] .
- في لفظ الحديث وبيانه ما يدل على أن الإيمان والاحتساب مندوب إليهما في الأفعال لا واجبان ؛ فلفاعلهما الثواب، كما عينه صلى الله عليه وسلم ، وليس على تاركهما العقاب، وهذه صفة المندوب.
- في لفظ الحديث وبيانه ما يدل على أن إحضار أعمال الباطن سبب في صحة جل أعمال الظاهر؛ ذلك لأن الإيمان أعز النعم، ومحله ومستقره القلب، الذي بصلاحه يصلح الجسد كله وبفساده يفسد؛ لأن الجوارح كلها منقادة إليه [48] . [ ص: 128 ] - ولفظ «الصدقة»، هـل هـو هــنا قصر على معنى واحد لا يتعداه أو هـو متعد إلى صور وأمثلة، الظاهر أنه متعد، كما ( في حديث أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة. ) [49] ، وهو متعد لكل أعمال البر؛ وهو معنى مقصود بنفسه، ( وقد ورد في حديث لجابر بن عتيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال عن عبد الله بن ثابت ، عندما وجده قد غلب عليه: « إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته. ) [50] ، والنية هـي القصد لفعل من الأفعال، وهي ثابتة لا تزيد [ ص: 129 ] ولا تنقص، وإنما تسمو بانضمام الإيمان والاحتساب أو أحدهما إليها، وبهذا الانضمام ترتفع الأعمال، فمن قدم النية مقرونة بالإيمان والاحتساب علت هـمته وسبق غيره ممن عمل بغير نية [51] .
- ويحتمل لفظ «الصـدقة» معنى الأجر؛ لأن الفائدة من الصدقة فيما يترتب عليها من الأجر؛ فمن أدى واجب النفقة أجر لامتثاله للأمر، وأجر لاستحضار الاحتساب والإيمان. [ ص: 130 ]