الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        فقه الوسائل في الشريعة الإسلامية

        الدكتورة / أم نائل بركاني

        المبحث الثاني

        أقسـام الحـيـل

        تقسم الحيل إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، بحسب موقف العلماء منها، والقصد، والحكم التكليفي، ومن حيث علاقتها بالمقصد، كما يأتي:

        1- أقسام الحيل من حيث موقف العلماء منها [1] تنقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام شأنها شأن الوسائل؛ لأنها في حقيقتها وسائل رافقها القصد، وعليه فهي إما مجمع على جوازها، أو مجمع على منعها، أو مختلف في حكمها.

        2- أقسام الحيل من حيث القصد

        وهذا التقسيم لابن تيمية، حيث قسمها بهذا الاعتبار إلى [2] :

        أ- الطرق الخفية، التي يتوسل بها إلى ما هـو محرم في نفسه بحيث لا تحل بمثل ذلك السبب بحال، فمتى كان المقصود بها حراما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، ومثل لذلك باحتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بإنكارها للإذن للولي أو بإساءة عشرته بمنع بعض حقوقه أو فعل ما يؤذيه أو غير ذلك. [ ص: 142 ] ب- ما كان في نفسه مباحا لكن يقصد به المحرم فصار حراما، كالسفر لقطع الطريق ونحوه.

        ج- أن يقصـد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل، لكن يكون الطريق في نفسـه محرما، مثل أن يكون له على رجـل حق مجحود فيقيم شـاهدين لا يعلمانه فيشهدان به، وقال: إنه حرام كله لأنه إنما يتوصل إليه بكذب منه، أو من غيره لا سيما إن حلف، والكذب حرام كله.

        د- أن يقصد بها حل ما حرمه الشارع وقد أباحه على سبيل الضمن والتبع إذا وجد بعض الأسباب، أو سقوط ما أوجبه وقد أسقطه على سبيل الضمن والتبع، إذا جحد بعض الأسباب، فيريد المحتال أن يتعاطى ذلك السبب قاصدا به تلك الحيلة والسقوط، وقال عنه: إنه حرام من وجهين كالقسم الأول: من جهة أن مقصوده حل ما لم يأذن به الشارع بقصد اسـتحلاله، أو سقوط ما لم يأذن الشارع بقصد إسقاطه؛ والثاني أن ذلك السبب الذي يقصد به الاستحلال لم يقصد به مقصودا يوافق حقيقته، بل قصد به مقصودا ينافي حقيقته ومقصوده الأصلي أو لم يقصد به مقصوده الأصلي، بل قصد به غيره، فلا يحل بحال.

        وقسمه إلى أربعة أنواع [3] :

        1- الاحتيال لحل ماهو محرم في الحال كنكاح المحلل. [ ص: 143 ] 2- الاحتيال لحل ما انعقد سبب تحريمه، وهو ما يحرم إن تجرد عن الحيلة، كالاحتيال على حل اليمين، ومنه الحيلة الربوية.

        3- الاحتيال على إسقاط واجب وقد وجب، مثل السفر في أثناء الصوم في رمضان ليفطر.

        4- الاحتيال لإسـقاط ما انعقد سبب وجوبه، مثال الاحتيال لإسقاط الزكاة.

        - الاحتيال على أخذ بدل حقه، أو عين حقه بخيانة، مثل أن يجحد مالا قد أؤتمن عليه زاعما أنه يستحق هـذا القدر، مع عدم ظهور سبب الاستحقاق أو إظهاره.

        ما يمكن ملاحظته من خلال تقسيمات ابن تيمية ، أنه تناول أقسام الحيل بالتفصيل، حيث تناول فيه الأقسام المتفق عليها والأقسام المختلف فيها، وكأنه قصد بذلك بيان أقسام الحيل بصفة عامة المرادفة للوسائل، ثم أقسامها بالنسبة إلى المعنى الخاص لها والذي هـو القصد إلى إسقاط واجب، أو تحليل حرام بوسائل الأصل فيها أنها مباحة.. كما أنه قد توسع كثيرا في بيان الحيل، وسلك فيها مسلك الاستقراء والتتبع لما يقع من الحيل، وتوسع في بعض الأقسام كثيرا واستدل عليها [4] . [ ص: 144 ] غير أن ابن تيمـية مع توسـعه في الحيل لم يتعرض للحيـل المباحة ولم يدرجها ضمن الأقسام التي ذكرها، على أن القسم الخامس الذي ذكره غير متفق عليه في إدراجه ضمن الحيل غير المشروعة، بل هـو مما اختلف فيه.

        وقريب منه تقسيم ابن القيم للحيل، لذلك ارتأيت أن لا أورد من تقسيمه إلا ما فيه زيادة أو مخالفة لشيخه ابن تيمية وهي الحيل المباحة التي تعرف بالحيل الشرعية، أو المخارج، التي لم يتناولها ابن تيمية في تقسيمه.

        القسم الرابع عند ابن القيم [5] هـو: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل، وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

        1- أن يكون الطريق محرما في نفسه، وإن كان المقصود به حقا، مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، ولا بينة له عليه فيأتي صاحبه بشاهدي زور يشهدان له. فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصد.

        2- أن تكون الطريق مشروعة، وما تفضي إليه مشروع كالبيع والإجارة وغيرها.

        3- أن يحتال على التوصـل إلى حق، أو على دفع ظلم بطريق مباحة، لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها طريقا إلى هـذا المقصود الصحيح، أو قد تكون قد وضعت له، لكن تكون خفية ولا يتفطن لها. وقد اهتم ابن القيم بهذا القسم ومثل له بمائة وستة عشر مثالا ليبين الفرق بين الحيل المشروعة، التي يسميها أيضا بالمخارج، والحيل الممنوعة. [ ص: 145 ] فالحيل المحرمة عند ابن القيم على ثلاثة أنواع هـي: أن تكون الحيلة محرمة ويقصد بها المحرم؛ وأن تكون مباحة في نفسها ويقصد بها المحرم؛ فتصير حراما تحريم الوسائل، كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة؛ وأن تكون الطريق لم توضع للإفضـاء إلى المحرم، بل وضعت للإفضاء إلى المشـروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحوها، فيتخذها المتحيل سلما وطريقا إلى الحرام.

        3- أقسام الحيل من حيث الحكم التكليفي (الأحكام الخمسة)

        يقول ابن القيم : «فالحيلة المحرمة منها ما هـو كفر، ومنها ما هـو كبيرة، ومنها ما هـو صغيرة، وغير المحرمة منها ما هـو مكروه، ومنها ما هـو جائز، ومنها ما هـو مستحب، ومنها ما هـو واجب» [6] .

        فالحيل أو المخارج تعتريها الأحكام الخمسة باعتبار أنها وسائل إلى مقاصد، فالنظر يكون إلى القصد في هـذه الوسيلة، هـل هـو مشروع أم لا؟ والمقصد المحقق هـل هـو موافق لمقاصد الشرع أو مخالف لها.

        4- أقسام الحيلة من حيث علاقتها بالمقصد

        والمقصود من هـذا التقسيم بيان ما إذا كان للحيل تأثير على المقصد، من حيث تفويتها لكله أو بعضه أو عدمه. [ ص: 146 ] وقد تناول هـذا التقسيم محمد الطاهر بن عاشور، وقسم الحيل بهذا الاعتبار إلى خمسة أقسام [7] أ- تحيل يفوت المقصد الشرعي كله ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر، وذلك أن التحيل بالعمل لإيجاد مانع من ترتب أمر شرعي فهو استخدام للفعل لا في حالة جعله سببا بل في حالة جعله مانعا. وهذا النوع لا ينبغي الشك في ذمه وبطلانه ووجوب المعاملة بنقيض مقصد صاحبه إن اطلع عليه. ومثاله من وهب ماله قبل مضي الحول بيوم لئلا يعطي زكاته واسترجعه من الموهوب له من غد.

        ب- تحيل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر، أي استعمال الشيء باعتبار كونه سببا وأن ترتب المسبب على سببه أمر مقصود للشـارع، مثاله أن تعرض المرأة المبتوتة نفسها للخطبة رغبة في التزوج مضـمرة أنها بعد البناء تخالع الزوج أو تغضـبه فيطلقها، لتحل للذي بتها.

        ج- تحيل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمرا مشروعا هـو أخف عليه من المنتقل منه، مثاله لبس الخف لإسقاط غسل الرجلين في الوضوء، فينتقل إلى المسح، فقد جعل لبس الخف في سببيته وهو المسح ولم يستعمله في مانعيته. [ ص: 147 ] د- تحيل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع، وفي التحيل فيها تحقيق لمماثل مقصد الشـارع من تلك الأعمال، مثل التحيل في الأيمان [8] التي لا يتعلق بها حق الغير كمن حلف أن لا يدخل الدار أو يلبس الثوب، فإن البر في يمينه هـو الحكم الشرعي، والمقصد المشتمل عليه البر هـو تعظيم الله تعالى، الذي جعله شاهدا عليه ليعمل ذلك العمل، فإذا ثقل عليه البر فتحيل للتخلص من يمينه بوجه يشبه البر، فقد حصل مقصود الشارع من تهييب اسم الله تعالى.

        ه- تحيل لا ينافي مقاصد الشرع، أو هـو يعين على تحصيل مقصده لكن فيه إضاعة حق لآخر، أو مفسدة أخرى.. ومثاله التحيل على تطويل عدة المطلقة حين كان الطلاق لا نهاية له في صدر الإسلام،

        فأنزل الله تعالى: ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هـزوا ) (البقرة:231) .

        فجعل الله صورة الفعل المشروع استهزاء بالشريعة لما قصد بها إضرار الغير.

        هذه أهم أقسام الحيل، التي أوردها العلماء، وهي تتشابه كثيرا مع أقسام الوسائل، بل متداخلة فيها، وذلك باعتبار أن بين الحيل والوسائل عموما وخصوصا مطلقا، فكل حيلة وسيلة، وليست كل وسيلة حيلة، فالوسائل أعم من أن تكون حيلا فقط. [ ص: 148 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية