المبحث الثالث ضوابط العمل بالمخارج (الحيل الشرعية)
إن العلماء الذين أجازوا العمل بالحيل، أو بالأحرى ما اصطلحوا عليه بالمخارج حينما، نظروا إليها على أنها من باب جلب المصلحة الغالبة أو درء المفسدة المتوقعة، ومن باب الضرورة ورفع الحرج عن المكلفين، خاصة وأن مبدأ التيسير في الشريعة مبثوث في كل أحكامها، وهو مقصد من مقاصدها، كما أن العمل بها لا يعدو كونه نوعا من الاستثناء وليس هـو الأصل، فيلجأ إليه عند الحاجة، لذلك فقد وضع القائلون بالحيل أو بالمخارج ضوابط للعمل بها، وهي لا تخرج عن كونها ضوابط للمصلحة في مجملها [1] ؛ وذلك لأن القصد من إجازتها هـو مراعاة المصلحة الراجحة، وهذه المصلحة لها ضوابط قررها العلماء، وعليه فضوابط العمل بالحيل هـي:
1 - عدم معارضتها للقرآن والسنة
وهذا شـرط في كل فعل أو قول يصدر عن المكلف بأن لا يخالف به ما ثبت في القرآن أو في السنة، بل لا بد من الالتزام بالأحكام الواردة فيهما، واتباع أوامرهما والانتهاء عن نواهيهما، والاحتكام إليهما. وآيات كثيرة [ ص: 149 ] تشـهد على ذلك، منها قوله تعالى: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائـدة:49) ،
وقوله تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (النسـاء:59) ، وغيرها من الآيات.
لذلك فلا بد أن لا تعارض الحيلة حكما ثابتا بنص القرآن أو السنة. وتجدر الإشارة إلى أن الحيل المقصودة لا بد أن تكون في المعاملات دون العبادات، والأحكام الخاصة بهذه الأخيرة فيها سعة، وليس كل جزئياتها منصوصا عليها في القرآن والسـنة، لذلك المشـروط في حيل المعاملات أن لا تخالف ما تقرر بخصوصها من أحكام كلية، ثم لا بد لهذه الحيل أن يكون القصد فيها حسنا، والوسيلة إليها جائزة، والمآل فيها مصلحة راجحة.
2- ألا يخالف قصد المكلف فيها قصد الشارع
المراد بهذا الضابط أن كل فعل أو قول يصدر عن المكلف لا بد أن يكون قصده فيه موافقا لقصد الشـارع، في جلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا كانت الحيلة القصد منها مخالفة مقاصد الشرع، بارتكاب المحرم، فهي حيلة باطلة عند القائلين بها، أما إذا كان قصد المتحيل تحقيق مصلحة راجحة بقلبه للأحكام أي خالف مقصدا بعينه خاصا بتشريع هـذا الحكم، لكن هـذه المصلحة المحققة تدخل ضمن مقاصد الشرع عامة، أي أنها لم تخرج من دائرة المشروعية، ومن رحاب سعة الشريعة، فتكون الحيلة جائزة. [ ص: 150 ]
3- أن تكون الوسيلة في الحيلة مشروعة والمآل مصلحة راجحة
المراد بهذا الشرط أن تكون الوسيلة والواسطة التي يتخذها المحتال في أصلها جائزة ومباحة، وإلا لكان الفعل كله ممنوعا؛ لأن التوسل بوسيلة ممنوعة إلى قلب الأحكام لا يجوز شرعا، بل محرم لأن فيه هـدما لمقاصد الشرع، وتبجحا على الله عز وجل، فتكون الحيل التي وسائلها أفعال محرمة، محرمة، وهذا النوع لم يقل بجوازه أحد، حتى من أجاز الحيل، وسماها مخارج، اشترط في قبول الحيلة أن تكون وسيلتها جائزة، والمآل مصلحة راجحة، وهي ما وافق مقاصد الشرع، بحيث تكون هـذه المصـلحة راجحة الوقوع، أو مقطوعة الحصول، وتندرج في المراتب الثلاثة؛ من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فتقدم الأولى على غيرها.
4- أن لا يتجاوز فيها قدر الحاجة
إن المجيزين للحيل اشـترطوا في العمل بها، بالإضـافة إلى ما مر، أن لا يتعدى العمل بها حد الضرورة والحاجة الملحة، لرفع الحرج، وإلا صار العمل بالحيل نوعا من الاسـتخفاف بشرع الله واستهزاء به، والتملص من الأحكام الشـرعية، واتباع الهوى، وليس مراعاة للضيق والمشـقة التي تلحق بالمكلف.
وباستقراء أحكام الشريعة يلاحظ أن التيسير أحد مقاصدها،
وتنهض بذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج:78) ، [ ص: 151 ] وقوله تعالى: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) (المائدة:6) ،
وقوله: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ،
وقوله: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) ،
وغيرها، والمقصود برفع الحرج في هـذه الآيات التيسير على المكلفين بإبعاد المشاق عنهم، في مخاطبتهم بتكاليف الشريعة [2] ، فمتى كان العمل بالحيلة من هـذا الباب فهي جائزة بقدر هـذه الحاجة.
5- ألا تكون في مجال العبادات
وذلك لأن الأصل في العبادات هـو التعبد لله عز وجل، فهي طاعات من المكلف، القصد منها دوام العبودية لله والخضوع له، فهذه العبادات ليس للمكلف بأي حال أن يسقطها عن نفسه بالتحيل أو غيره، لذلك فإن المجيزين للحيل وإن لم يصرحوا بهذا الشـرط، إلا أنه مستفاد مما أوردوه من أمثلة على الحيل، التي تدور كلها حول مسائل المعاملات، وما يكون بين مكلف ومكلف آخر. [ ص: 152 ]