2- مظاهر العولمة الثقافية ومتطلباتها التربوية [1] :
تعني العولمة الثقافية: بروز عالم بلا حدود ثقافية، فيه تنتقل الأفكار والمعلومات والقيم والأنماط السلوكية بحرية كاملة في اتجاه تكوين ثقافة إنسانية واحدة، على أساس أن طبيعة الإنسان واحدة، واحتياجاته واحدة أينما وجد على هذا الكوكب. وما تنوع الثقافات -كما يزعم منظرو العولمة -إلا نوع من استجابة الجماعات البشرية للبيئة الطبيعية وتفاعلها معها لتلبية احتياجاتهم المادية والروحية، وبالتالي لا توجد ثقافة أصلية وأخرى أدنى، ولا توجد ثقافة متحولة وأخرى ثابتة [2] .
وبما أن معنى العولمة: هو تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله؛ فإن معناها الثقافي هو تعميم ثقافة الدول الرأسمالية الكبرى -وعلى رأسها أمريكا- على كل بلاد العالم، ولا سيما التقليدية منها، على اعتبار أن الثقافة نظام جزئي لحضارة النظام الرأسمالي، ولا بد من القيام بأدواره حتى تكتمل منظومة عولمة العالم، خصوصا وأن العولمة الثقافية هي أساس [ ص: 95 ] عولمة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ كون العولمة تقع في القلب من الثقافة الحديثة، وتقع الممارسات الثقافية في القلب من العولمة [3] .
والملاحظ أن العولمة الثقافية تبدو أقل وضوحا ومشاهدة من العولمة الاقتصادية، ولكنها تنساب إلى الثقافات الوطنية بهدوء، وتمارس فعلها بصمت، وتقوم بتأسيس جذورها في البلاد العربية ودول العالم الثالث دون جلبة واستفزاز؛ لأن العولمة الثقافية تمس الهوية الوطنية وبنى المجتمع التقليدية وقيمه وعاداته وأنمـاط حياته، وهـذه أمور لا تتغـير بين ليلة وضحاها كما يحدث في العناصر المادية من العـولمة؛ لأن كل جديد يدخل إلى الثقافة لا بد أن يمر بمرحلة تجريب؛ حتى يتم إدماجه في إطار البناء الثقافي القائم دون أن يحدث خللا فيه وإلا رفض، مع التأكيد أن كل جديد يمس لب الثقافة أو ثوابتها يقاوم بشدة، وتتخذ إزاءه مواقف عدوانية.
ولكن باستمرار تفاعل الثقافة التقليدية مع غيرها الأقوى منها، وخضوعها التام للعناصر الثقافية الوافدة؛ فإنها تواصل اختراق الثقافة التقليدية، مؤدية بذلك إلى تقسيم أبناء المجتمع إزاءها بين رافض ومعاد لها، وبين صامت متشكك ومتخوف، وبين مؤيد مستفيد منها، وخاضع مستكين لها.
وهذا ما تقصده عولمة الثقافة في البلاد العربية في هذه المرحلة، والمتمثلة في تمزيق مكونات المجتمعات العربية، وإثارة حدة التناقض والصراع بين [ ص: 96 ] فئات المجتمع وجماعاته؛ بقصد إضعاف روح المقاومة لعناصر الثقافة الوطنية، وتهميش قوى الرفض.
وبتجاوز هذه المرحلة تكون العولمة الثقافية أسست قواعدها لتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة الانقضاض الكـامل عـليها، وإن كان هناك من يرى أنه لا توجد عولمة ثقافية كالعولمة الاقتصادية، ولن تتحقق؛ لأن البلاد العربية تملك مقومات وجودها، ولا يمكنها الانسلاخ من هويتها القومية وتقاليدها التليدة ببساطة، وبالتالي لن تتحقق العولمة الثقافية. وكل ما هنالك هو قيام عالم بلا حدود ثقافية يسمح بتفاعل الثقافات الإنسانية مع الدول الصناعية، حتى ترتقي إلى الطور العالمي، بما يسمح ببروز مفاهيم وقيم وقناعات وسلوكيات مشتركة، ثم انتقال اهتمام وعي الإنسان من البيئة المحلية إلى البيئة العالمية، ومن المحيط الداخلي إلى المحيط الخارجي، حتى يزداد الوعي بعالمية العالم وبوحدة البشر [4] .
غير أن الكثير من أصحاب هذا الرأي يرون أن استمرار نقل التقنية من الدول الرأسمالية، والاحتكاك الدائم والطويل المدى بها سوف يؤدي إلى تغيرات عميقة في ثقافات بلدان العالم الثالث، وربما إذابتها [5] إذا لم تتحرك [ ص: 97 ] في أكثر من اتجاه وتتعامل بوعي مع العولمة، والإسراع بعملية التحديث الواسع والعميق حتى يمكنها الانخراط في عصر العلم والتقنية [6] .
ومهما كانت الحال فثمة إجماع كبير، على الأقل بين مفكري وعلماء البلاد العربية، أن البشرية تتجه نحو ثقافة عالمية مشتركة، بمعنى أن هناك خصائص ثقافية ذات طابع عالمي تفرض نفسها على ثقافات ومجتمعات متباينة تخترقها دون مراعاتها لهوية هذه المجتمعات وخصوصيتها الثقافية التي تكونت عبر قرون طويلة، ومحاولة احتوائها بدءا من زعزعة وهدم ثوابتها ومرورا بمحوها من ذاكرة أبنائها، وانتهاء بالحلول محلها [7] .
وطالما أن الرأسمالية محكومة بمنطق التراكم، واهتمامها بالاقتصاد وتعظيم مكاسبها أكثر من أي شيء آخر بما في ذلك الأخلاق والقيم الإنسانية، وعولمة الاقتصاد فرضت توحيد الثقافات، فإنها تقوم على نشر الثقافة الاستهلاكية الجماهيرية في البلاد العربية ودول العالم الثالث؛ من أجل تحويل أفراد المجتمع إلى مجرد مستهلكين للسلع والخدمات التي تروج على الصعيد العالمي.
وهي بذلك تستهدف النشء والشباب أكثر من غيرهم باعتبارهم قوة شرائية يمكن تشكيل أذواقها وقيمها واتجاهاتها الحديثة؛ لزيادة أرباح [ ص: 98 ] الشركات العملاقة وتقوية المراكز الرأسمالية العالمية، لذلك لا يقل تعميم وانتشار ثقافة ولغة الدول الكبرى في البلاد العربية والعالم الثالث أهمية عن تعميم وانتشار البضائع والسلع التجارية؛ كون الثقافة اندمجت في العملية الاقتصادية والتجارية أسوة بغيرها من السلع والمنتجات القابلة للتداول في سوق المنافسة على أساس أن منظومة الحضارة الغربية تصنف الثقافة كسلعة ضمن باقي السلع، وهي بذلك تستهدف الثقافة الرمز [8] .
ومن سخريات الوضع الراهن أن ثقافة العولمة تجتمع مع تقنية الإعلام والمعلومات والاتصالات في الرموز والتعابير، أي محكومة بمنظومة الثقافة التي تؤسس لها وتفتح آفـاق تطـورها، بحيث يغدو كل منهما معطى للآخر، أو سببا ونتيجة لوجود الآخر. وحيث إن تقنية المعلومات والاتصالات تعتبر أهم أدوات صناعة عولمة الثقافة ونشرها، وإن نموها يؤدي إلى تطوير تقنيات المعلومات؛ فإن تفاعل وتكامل هذين الجانبين هو الذي يجعل عولمة الثقافة تحدث أثرها في أبناء المجتمعات التقليدية لبلوغ أهداف اقتصادية وسياسية وغيرها، أي أن المنتجات المستهلكة في البلاد العربية تكون سببا لاختراق منظومتها الثقافية، في وقت أصبح فيه السوق وقيمه المادية نموذجا كونيا لتنظيم الحياة المجتمعية، ومرجعية للحكم على كل شيء [9] ، والعكس إن غزو [ ص: 99 ] الثقافات الوطنية وعولمتها يصبح وسيلة لبلوغ أهداف اقتصادية وسياسية...الخ.
واختراق العولمة للثقافات الوطنية لا تفرضه عملية تنميط وتوحيد الاستهلاك المادي والثقافي فحسب، وإنما أيضا لإبراز العولمة بوصفها أيديولوجية تحاول إظهار نفسها كمعتقد للصراع الأيديولوجي [10] ، وهي لهذا تمارس اختراقها الثقافي بإلغاء الصراع الأيديولوجي بين اليمين واليسار، والحلول محله من خلال السيطرة على الإدراك لتشكيل الوعي وتوجيهه. وبتركيز الثقافة الاستهلاكية على النشء والشباب من خلال ثقافة الصورة السمعية/البصرية التي تسطح الوعي يمكنها اختراق الثقافات الأخرى والهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية والوطنية والقومية [11] .
وباستمرار انتقال عناصر الحضارة الغربية إلى بلدان العالم الثالث بالتزامن مع تعميق العولمة الاقتصادية تأخذ مقومات الثقافات التقليدية في التفكك، الاجتماعية منها والسياسية، وتفقد ديناميكية تماسكها وزخم استمرارها؛ نتيجة ظهور التناقضات الإثنية والنـزاعات القومية والتصادمات البينية، وهذا ما أكده "فريمون" بالقول: "إن الثقافات الأضعف لا تجد أمامها إلا التفكك والانهيار؛ مما يشكل إشكالية على صعيد الهوية، وعلى [ ص: 100 ] نمط الحياة الاجتماعية، وبالتالي فقدان الاستقرار الذي يشكل المصدر الخفي لضياع المجتمع وتجزئته" [12] ؛ لأن الانفتاح الكامل للثقافات الوطنية بدون مناعة داخلية، وبدون تفاعلها الحيوي مع محيطها، والتغيير الهادف والمبدع، لن يؤدي سوى إلى ذوبانها في منظومة العولمة الأقوى.
وفي ذات الاتجاه شكلت تقنية المعلومات والاتصالات بيئة ثقافية عالمية من خلال إدخال البشرية إلى ثقافة الصورة السمعية/ والبصرية التي سمحت بالتدفق السريع والحر للمعلومات والإعلام متخطية حاجز الزمان والمكان؛ لتستقطب الملايين عبر قارات العالم لنشر الثقافة الاستهلاكية وتنميط السلوك؛ بقصد الانخراط في ثقافة عالمية جديدة.
ويتم اختراق وتشويه البنى التقليدية لدى أبناء المجتمعات العربية من خلال نشر ثقافة إعلامية وإعلانية، اتصالية تسطح الفكر وتزيف الوعي، وتصنع الذوق الاستهـلاكي والرأي السياسي، وتشويش نظام القيم وتنميط السلوك ناشرة بذلك جملة من الأوهام هي: وهم الفردية، ووهم الخيـار الشخصي، ووهم الحياد، ووهم الطبيعة البشرية، ووهم غياب الصراع الاجتماعي [13] .
وتحت دعاوى [14] الحرية الشخصية يتم تفكيك الفرد عن أسرته. وبتحرير الفرد والتعبير عن رأيه يتم تفكيك الفرد عن أمته وتكريس النـزعة [ ص: 101 ] الأنانية. وبإزالة الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات والمعلومات يتم تفكيك الدول وإلغاء وظائفها السيادية. وبذلك يتم تحويل الفرد إلى إنسان مستهلك غير منتج، وعزله عن قضايا مجتمعه، وإعادة تشكيل قناعاته الوطنية والدينية والقومية، وإضعاف روح النقد والمقاومة عنده، وبالتالي استسلامه إلى واقع الإحباط، عندها يخضع لهيمنة العولمة أو النظام العالمي الجديد [15] .
ونتيجة لذلك تتحول الخصوصية القومية والثقافة الوطنية إلى أشكال جديدة من الخصوصية المهنية والولاء للشركات وأصحاب العمل [16] .
ولعل ما تهـدف إليه عولمة الثقافة في البلاد العربية ودول العالم الثالث ما يأتي [17] :
- توجيه مسار تطور البنى التقليدية في الاتجاه الذي يسمح بتصريف منتجات الدول الكبرى المسيطرة على النظام الرأسمالي المعولم، بالقدر الذي يسهم في تطوير قوى الإنتاج في الداخل، وتعميم ثقافة الاستهلاك لدى الفئات العمرية المختلفة. [ ص: 102 ]
- تفكيك وتهميش الثقافات الوطنية بوساطة قوة وسائل الاتصال والإعلام والمعلومات، التي تحتكرها الدول الرأسمالية الكبرى بقصد توجيه نمط الثقافة نحو تقوية منطق الاستهلاك لدى الشعوب.
- توظيف العلم والمعرفة لاختراق الثقافات التقليدية من خلال إظهار تفوق الغرب الرأسمالي وحضارته، وضرورة الاعتماد على إنتاجه المعرفي لتطوير المناهج التعليمية وإجراء البحوث .. الخ.
- دعم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التي يقدمها صندوق النقد الدولي وسواه لدول العالم الثالث، التي تحقق مصالح وقوى النظام الرأسمالي المعولم، ولا سيما ما يتصل بالتحولات الاجتماعية.
- تسهيل نقل الصناعات التقليدية من الدول الرأسمالية الكبرى إلى بلدان العالم الثالث ذات الأيدي العاملة الرخيصة؛ بما يرسخ من ناحية عولمة الاقتصاد، ويؤكد من ناحية ثانية ثقافة تخليص المجتمعات التقليدية من تخلفها.
وما هو أكيد أن عولمة الثقافات الوطنية في البلدان العربية والعالم الثالث على النحو السالف ذكره يؤدي إلى جملة من النتائج المجتمعية السلبية، التي تختلف نوعيتها وحدة تأثيرها من مجتمع إلى آخر تبعا لمدى عمق ومستوى انتشار العولمة الثقافية، لعل من أبرز هذه النتائج:
- نشر جملة من الأوهام لزعزعة منظومة القيم وإذابتها.
- تعمل على إيجاد تمايز واضح بين ثقافة النخب وثقافة الجماهير، وتوجد ازدواجية بين الأصالة والمعاصرة في الثقافة والفكر والسلوك [18] . [ ص: 103 ]
- أنها تسلب إرادة الفعل لدى شعوب العالم الثالث وتجعلها محبطة خاضعة لقيم الدول الكبرى.
- تكرس التناقضات الإثنية والنـزاعات القومية والصراعات بين شرائح المجتمع وفئاته ومناطقه.
وبما أن العولمة الثقافية تعتمد في تأسيس قواعدها وانتشارها على فكر ووعي أبناء الدول العربية ودول العالم الثالث -والمعرفة والمعلومات أساس الاقتصاد المعولم- فإن مدخلها تربوي في المقام الأول؛ كون التربية أداة مجتمعية لتشكيل شخصية الفرد وجعله عضوا اجتماعيا مندمجا في ثقافة مجتمعه مضطلعا بمهامه فيه، متكيفا مع متغيراته، وبالصورة التي تعكس ما يمر به المجتمع من متغيرات ومستجدات، بمعنى أن التربية تمارس أدوارها العولمية بصورة تلقائية وفقا لما تحتاجه العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وبالإضافة إلى أدوار التربية التقليدية السالف الإشارة إليها، أصبحت عولمة الثقافة تملك أدواتها وأساليبها وآليات فعلها، التي تقوم بها لعولمة ثقافات مجتمعات البلاد العربية والعالم الثالث، حيث تقوم أولا: على وسائل الإعلام والاتصال وتقنيات المعلومات، التي مكنت الدول الكبرى من التأثير المباشر في مختلف شرائح المجتمع ومناطقه؛ لنشر ثقافتها، حتى أنها تداخلت مع أدوار التربية المدرسية وتكاملت معها تارة، وقلصت بعض أدوارها، بل وتغلبت على بعضها الآخر وحلت محلها تارة ثانية، وصارت تقوم بأغلب الأدوار التربوية في العديد من نظم التعليم ومؤسساته في الكثير من بلدان [ ص: 104 ] العالم تارة ثالثة. أما بشأن التربية اللامدرسية، فقد تفوقت عليها وكادت تتغلب عليها في كثير من الأحيان.
وتعتمد الدول الكبرى ثانيا: على تكريس أنماط التعليم الغربي، التي تكونت سابقا، وظلت تسير في ظلها وتنمو وتتطور حتى كادت أن تكون نسخا مطابقة لها في كثير من الأحيان، كما أن تفوق الدول الكبرى في إنتاج المعرفة وتطبيقها في شؤون الحياة وتحويل المعلومات إلى سلع جعل نظم التعليم ومؤسساته هذه تعتمد عليها في تطوير مناهجها التعليمية والقيام بأنشطتـها، بل وتطـوير نظم تعـليم وتعلم حديثة بمحتويات وأساليب جديدة.
وتمارس الدول الكبرى ثالثا: ضغوطا قوية مختلفة سافرة ومبطنة على البلدان العربية -خصوصا- وبقية دول العالم الثالث -عموما- لتطوير نظمها التعليمية في الاتجاهات الملائمة للعولمة، تتمثل في تدخل الدول الكبرى في تقديم المساعدات والقروض..الخ للتوسع في التعليم النظري على حساب التعليم المهني والتقني والتطبيقي، وتغيير المناهج التعليمية تحت ذريعة الحداثة، واستيعاب الانفجار المعرفي، وتقنيات المعلومات والاتصالات، ونشر ثقافة الحقوق على الديمقراطية، واحترام التنوع الثقافي والديني، والعيش مع (الآخر)، وكذا تدخل المؤسسات الدولية مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، و (الجات) لوضع شروط مجحفة على بلدان العالم الثالث بجبرها على تطوير نظمها التعليمية في الاتجاهات التي تخدم مصالحها. [ ص: 105 ]
ومن جهة أخرى لعل تزايد التوجه نحو خصخصة التعليم العام والعالي في دول العالم الثالث، ومنها البلاد العربية، خير مثال على إخضاع التعليم لآليات السوق والتعامل معه كسلعة، ومن ثم تحوله إلى مراكز لنشر ثقافة العولمة، وغير ذلك من الأمور التي يمكن بيانها في حينه.