الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني

الدكتور / عبد العظيم صغيري

المبحث الثالث

مفهوم "الحسن" في القرآن الكريـم

يقدم هذا المفهوم القرآني نفسه في لبوس مخالف للمفهومين السابقين، من حيث دلالته على الموضوع الجمالي وصلته به، ودرجة توظيفه، وسياق استعماله، وتنوع صيغه، فقد ذكر هذا اللفظ بصيغ مختلفة جاءت منسجمة مع الإطار العام الذي ذكرت فيه في القرآن الكريم [1] ، وخادمة للغرض التعبيري والمضموني في آن واحد.

نسجل في البداية أن مفهوم "الحسن" في السياق القرآني حافظ على دلالة واحدة، على الرغم من تنوع السياقات التي ذكر فيها وتعددها، وهذه [ ص: 66 ] الدلالة تنصرف إلى أن "الحسن" في الشيء دليل على أن الجمال جزء من تكوينه وحقيقته، أو بعبارة أخرى دليل على أن الجمال مكون أساس لماهيته وجوهره، وهذا يعني أن "الحسن" في التوصيف القرآني وفي استعمال الفصحاء: "لا يستعمل للدلالة على وقع ذلك "الشيء" في النفس بل للتعبير عن حقيقته" [2] ، تـماما كما هي ماثلة فيه، فالمرأة مثلا بجبلتها حسناء، ولذلك يصف القرآن الكريم جمالها بالحسن عندما يقصد هذا الملمح كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا ) (الأحزاب:52)، في إشارة إلى جمال المرأة الجبلي المترتبط بأنوثتها ورشاقتها وطبعها المرهف، أو مايتعلق بجمالها المعنوي المرتبط في التصور الإسلامي بالإحسان في العبادة كما في قوله تعالى: ( وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) (الأحزاب:29)، لكن إذا وظفت المرأة جمالها لنيل الشهوة الحرام، أو للإيقاع بالغير في المعصية، فالقرآن الكريم يستعمل وصفا آخر، هو وصف "الزينة" كما مر معنا في المطلب السابق، ويكفي هنا تأمل الآيتين التاليتين دليلا على ذلك، قال تعالى: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة [ ص: 67 ] والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (آل عمران :14)، فالشهوة التي يطلبها الناس في النساء زينة، تزداد أكثر بإبداء المفاتن والخضوع بالقول، والتكسر في المشية، وعدم غض الأبصار، لذلك ورد التنصيص صراحة على نهي النساء عن استعمال هاته الزينة في غير مواضعها، ولم ينتخب النص القرآني وصفا آخر غير وصف "الزينة" الذي ورد ثلاث مرات في آية واحدة: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) (النور:31).

ونستطيع من خلال تتبعنا لمفهومي "الحسن" و"الزينة" في القرآن الكريم أن نجد آيات كريمة واضحة الدلالة على الفرق بينهما، كما في قوله تعالى: ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) (فاطر:8)، فقد وصف الباري سبحانه العمل السيء بالزينة، ومر معنا في الصفحـات السابقة أن [ ص: 68 ] الشيطان هو الذي يزين الأعمال السيئة للناس لإغوائهم وإضلالهم [3] ، لكن بمجرد أن يقتنع المرء - ولو كان مغررا به - بجمال هاته الأعمال، أو يخيل إليه أن مايقوم به - لسوء فهمه أو ضعف إدراكه - هو الحق عينه، فإن التعبير القرآني هنا يصف هذا العمل بـ: "الحسن" لأن صاحبه ما أقدم عليه إلا لظنه أنه يوافق الصـواب، ويخدم المصلحة ويحققها، فانطباعه أثناء قيامه بهذا العمـل، أنه يؤدي عمـلا جميـلا، فكان أن وصفـه القرآن الكريم بـ: "الحسن"، ولن يمنع من ذلك شيء حتى مع إقرار النص القرآني بفساد [ ص: 69 ] هذا العمل وخسرانه، قال تعالى: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) (الكهف:103-104).

إن الارتباط العضوي بين الحسن والجمال الحقيقي الموجود في الأشياء، مسألة تأكدت لدينا باستقراء جميع الآيات القرآنية التي ورد فيها لفظ "الحسن" بجميع صيغه، ومهما كان السياق الذي ورد فيه، أو الجهة التي نسب إليها أو وصف بها.

فعلى امتداد الآيات الشريفة التي تضمنت لفظ "الحسن"، يلفي الباحث نفسه في منظومة من المواقف والصور والمشاهد والتطبيقات التي يسكنها الجمال من كل ناحية، بل هي الجمال عينه، فبينها وبينه علاقة نسب ومصاهرة، تزداد مع السرد القرآني تألقا، وتأخذ بالألباب كلما تطور التصوير وتنوعت المشاهد، طبيعية كانت أو إنسانية.

فالعلاقات الإنسانية تكون جميلة عند توفر الصحبة "الحسنة" لأن وجودها يعصم من الوقوع في "زينة" الدنيا، فكانت معية الصالحين في الدنيا مطلوبة لهذا الغرض: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) (الكهف:28)، وإذا تحققت هاته الصحبة الدنيوية للإنسان، فإنه يجازى بأفضل منها في الآخرة، إنها الرفقة الحسنة لثلة: ( ومن يطع الله والرسول [ ص: 70 ] فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) (النساء:69)، حسنت هاته الرفقة في الآخرة، كما حسنت في الدنيا لتوفر مجموعة من الشروط، تتفق جميعها في كونها موصوفة بالحسن، والحسن هنا ليس شيئا آخر غير الجمال الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة، ولا يعكر صفوه كدر.

لنتأمل أمثلة من هاته الشروط في الآيات الآتية:

1- الإحسان في العبادة بجمالية تطبيق الفرائض، وحسن تأدية الواجبات، والاجتهاد في نشدان الحسن الإلهي المطلق بطول المناجاة، ودوام التبتل: ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) (النساء:125)، ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) (النحل:128)، من هنا دعوة الناس إلى صحبة مع المحسنين التماسا لمحبة الله: ( والله يحب المحسنين ) (آل عمران: 134)، ورحمته: ( هدى ورحمة للمحسنين ) (لقمان:3)، وحسن جزائه: ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * إنا كذلك نجزي المحسنين ) (المرسلات:43-44) [4] .

2- الإحسن إلى الوالدين: ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم [ ص: 71 ] فأنبئكم بما كنتم تعملون ) (العنكبوت:8)، ( وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا ) (البقرة:83)، ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) (النساء:36)، ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) (الأنعام:151)، ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) (الإسراء:23).

3- القول الحسن واستبدال الحسن بالسيء: ( وقولوا للناس حسنا ) (البقرة:83) ، ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ) (الإسراء:53)، ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) (الزمر:18)، ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) (النمل:11).

4- القرض الحسن: ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) (البقرة:245)، ( وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء [ ص: 72 ] السبيل ) (المائدة:12)، ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ) (الحديد:11)، ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ) (الحديد:18) ، ( إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ) (التغابن:17)، ( وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ) (المزمل:20).

5- الموعظة الحسنة: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (النحل:125).

6- الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء وصالحي الأمة، وذلك في قوله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21)، ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) (الممتحنة:4)، ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) (الممتحنة:6).

7- التصديق بالحسنى وعدم التكذيب بها: ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد * وصدق بالحسنى ) [5] (الليل:5-6)، ( وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى ) (الليل:8-9). [ ص: 73 ]

8- تقديم التحية الحسنة: ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) (النساء:86).

9- الجدال الحسن: ( وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (النحل:125)، ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (العنكبوت:46).

10- التسريح الحسن: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) (البقرة:229).

11- مـطـلق الإحسان إلـى النـفس والآخريـن والدفـع بالتـي هي أحسـن في كل المواقف والأفعال: ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) (الإسراء:7)، ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) (القصص:77)، ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (البقرة:195)، ( للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) (آل عمران :172)، ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) (المائدة:93)، ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) (يونس:26)، ( وقيل [ ص: 74 ] للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ) (النحـل:30)، ( قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر:10)، ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) (النجم:31)، ( وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) (النساء:128)، ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) (الأنعام:152)، ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت:34)، ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90).

إن هاته الأمثلة كافية للتدليل على صحة ما ألمحنا إليه آنفا، ففيها تتبدى بوضوح ملامح الجمال الحقيقي المتمثل ابتداء بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما، وانتهاء بالإحسان إلى النفس والآخرين، والدفع بالتي هي أحسن في كل المواقف والأفعال؛ في القول الحسن والقرض الحسن والموعظة الحسنة والأسوة الحسنة والتحية الحسنة والجدال الحسن، بل إن الوصف القرآني ينسحب بالسوية حتى على ما يظن أنه ليس حسنا، كما هو الحال عند [ ص: 75 ] وصفه للطلاق بـ: "التسريح الحسن" [6] ؛ ولعل التأمل الواعي في حالة الأزواج الذين يقدمون على الطلاق، من حيث نفسيتهم المتوترة، ومزاجهم المضطرب، مع استحضار حالة الهيجان والتعصب التي يكونون عليها، كل ذلك يهدينا إلى الحكم على الطلاق بأنه تسريح حسـن، أو تسريح جميل كما مر معنا في مطلب الجمال السابق [7] ، وذلك بالنظر إلى المآلات والعواقب الوخيمة التي كانت ستحدث لو تم الإبقاء على الزوجين في رباط لا ود فيه ولا رحمة، وهي مآلات أقل ما توصف به أنـها نقيضة للحسن والجمال، إنها القبح في أشنع تجلياته الحسية والمعنوية.

على الإيقاع نفسه، تستمر مواكب الحسن في النص القرآني، مبينة أن الله تعالى الذي: ( لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) (طه:8) [8] ، [ ص: 76 ] هو خالق الحسن من عدم: ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ) (السجدة:7)، وهو منشئه دون مثال سابق: ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) (آل عمران: 6)، هو مسبغه على الكائنات : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) (التين:4)، هو المشكل لصوره الجميلة وأشكاله المختلفة: ( وصوركم فأحسن صوركم ) [9] (غافر:64)، وقبل هذا وأثناءه وبعده، هو من قذف تقدير الحسن في نفس الإنسان، وعلمه كيف يتذوقه ويستغله لمصلحته، ومنحه فطرة [10] تـميل إلى تلمس مواطنه فتنفعل بها، وتتملى تجلياته فتركن إليها؛ من ذلك "الرزق الحسن" الوارد في قوله تعالى: ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ) (هود:88)، ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) (النحل:67)، ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون ) [ ص: 77 ] (النحل:75)، ( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ) (الحج:58)؛ إن حسن الرزق يتبدى في كونه هبة وعطاء من الله، ثم هو آية للتأمل والاعتبار، ومعيار للتفاضل، فكان نعم الهدية للمجاهدين والمهاجرين في سبيل الله، جزاء لهم على حسن عملهم: ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) [11] (التوبة:120-121)، ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) (الكهف:30).

ومن ذلك أيضا "المظهر الحسن" و"المقام الحسن" و"الأثاث الحسن" الوارد في قوله تعالى: ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) (مريم:73)، ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) [ ص: 78 ] (مريم:74)، فلا خلاف أن الـمـجالس تعتبر من أحسن ما يتجمل به، لذلك يتنـافس أصحـاب الجـاه والسـلطان في التفنن فيها، بالإعداد الجيد لها، وتوفـير المستلزمات الضرورية لها، من حاشية وخدم وأبهة في مجالس الحكم، ومن مأكل حسن وشراب حسن وجليس يحسن الكلام ويجيد فنون القول بما يحقق الإمتاع والمؤانسة في مجالس الأنس والطرب، لذلك فالتعبير القرآني حافظ على وصف هاته المجـالس التي هذا شأنها، ملمحا إلى أن المجالس الحسنة التي تستحق الجلد والمصـابرة هي مجالس وأندية الآخـرة لأنـها: ( وأحسن نديا ) [12] ، في السياق نفسه تحدث القرآن الكريم عن "المظهر الحسن" و"الأثاث الحسن" في قـوله تعالى: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) (مريم:74)"، باعتبارهما من المواطن التي يطلب فيها الحسن، ويجتهد الإنسان في الظهور فيها على أحسن وجه وأتـمه.

وقد أحسن المفسرون صنعا عندما وقفوا، رحمهم الله، على هذا المعنى من خـلال تفسـيرهم للآية السـابقة بتفسيرات نجملها مع العلامة البقاعي في الآتي: [ ص: 79 ]

- أحدها: أن الأثاث: المتاع، والرئي: المنظر، قال الشاعر:


أشاقت الظعائن يوم ولوا بذي الرئي الجميل من الأثاث



- الثاني: أن الأثاث ما كان جديدا من ثياب البيت، والرئي الارتواء من النعمة .

- الثالث: الأثاث ما لا يراه الناس. والرئي ما يراه الناس.

- الرابع: معناه أكثر أموالا وأحسن صورا.

- ويحتمـل خـامسا: أن الأثاث ما يعـد للاستعمـال، والرئـي [13] ما يعد للجمال [14] . [ ص: 80 ]

في الحالات جميعها، الـمدار كله على وجود الحسن وبروزه، في المتاع والمنظر، في الـمال والثياب، وفي كل النعم التي يرتوي منها الإنسان ويظهرها ليعجب به الناس، ويعجبون من صنيعه وتـميزه.

بعد هذا التجوال في المدلولات الجمالية لمفهوم الحسن في القرآن الكريم، نستطيع أن نقرر بهدوء أن التعبير القرآني عن الجمال الحقيقي الموجود في الأشياء لايكون إلا باستعمال لفظ "الحسن" الذي يدل في جميع صيغه على وجود ارتباط عضوي بين هذا الشيء والجمال الكامن فيه؛ من ذلك مثلا قوله تعالى: ( والله عنده حسن المآب ) (آل عمران :14)، وقوله تعالى: ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) (ص:25) ، وقوله تعالى: ( قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ) (يوسف:23)، وهذه الآيات: "دالة على حقائق الحسن، فحسن المآب يعني أن المآب في حقيقته جميل وليس جماله انطباعا يشعر به الإنسان يوم القيامة. ولهذا أيضا فإن الباري عز وجل عندما يوجه عباده بقوله الكريم: ( وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (البقرة:83)، فإنه يوجههـم إلى أن يـكون ما يقولونه في جوهره وحقيقته جميلا، لا أن يكون القول مترائيا لسامعه أنه جميل، في حين أنه ليس كذلك في نفس قائله، فهو يدعو عباده إلى صدق المقال وتجنب النفاق" [15] . [ ص: 81 ]

وهكذا، يلاحظ المؤمن وهو يتدبر كتاب الله المقروء، أنه مدعو للبحث عن الحسن أنى وجده في كتاب الله المنظور، وهو مطالب بعد ذلك باتخاذ هذا الحسن دليلا له في العبادة والعمل، وفي العلاقات العامة مع أهله ومع غيره، فإذا حياته كلها تسير على إيقاع الحسن، أخذا وعطاء، تمثلا وتطبيقا، قولا وعملا؛ فالمسلم الحق هو من يعيش بالحسن، ويدعو إليه، وينشره في الآفاق مرددا قوله تعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33)".

[ ص: 82 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية